في عصر التكنولوجيا، وأثناء زيارة رئيس مجلس إدارة شركة «أبل» للقصر الرئاسي في أنقرة، كانت حكومة «حزب العدالة والتنمية» تسلط الضوء على سبل التحول الى دولة بوليسية، وتطوع التكنولوجيا لمصلحة مثل هذه الدولة، وتقيد الحريات في دولة ترفع لواء الديموقراطية! فالبرلمان التركي أقر بغالبية أصوات نواب الحكومة قانون الرقابة على الإنترنت والذي يمكِّن الحكومة من إغلاق أي موقع إلكتروني لا يعجبها من غير انتظار إذن قضائي، ومن مراقبة الأتراك عبر تتبّع الصفحات والمواقع التي يرتادونها وتلك التي تصفّحوها في العامين السابقين! وفي وقت يحظر على الشعب الاطلاع على فضائح الحكومة، تجيز لنفسها كشف أدق تفاصيل حياتنا، تماماً كما يحدث في الصين وكوريا الشمالية. ودافع الحكومة الى إقرار هذا القانون هو غرقها في الفساد والسرقة، وإدراكها أن المواطنين بدأوا يكتشفون ذلك بواسطة مواقع انترنت تنشر تسجيلات صوتية لمكالمات سرية وتسجيلات مرئية، وعبر تداول نواب المعارضة هذه المعلومات في البرلمان. ويعود الفضل الى الشبكة الالكترونية في معرفة الأتراك- إثر الاستماع الى صوت اردوغان في مكالمة مسجلة- كيف تدخل رئيس وزرائهم وهو في زيارة الى المغرب، ومنع وسائل الاعلام من نشر تصريحات المعارضة في ازمة تظاهرات حديقة غازي بارك في يومها الثالث. وأنصت الأتراك الى أحد الوزراء وهو يدعو رجال أعمال الى جمع 630 مليون دولار لمساعدة رجل أعمال مقرب من الحكومة على شراء مجموعة «صباح» الاعلامية التي أمره أردوغان بشرائها، وسمعوا كيف دار كلام هؤلاء المتعهدين والمقاولين على أن «الخدمة» ترد الى من يتبرع بمليون مضاعفة في مناقصات حكومية! وتناهى الينا ان مذكرة وكيل النيابة تتهم الحكومة بجمع نحو 86 بليون دولار في إطار رشاوى وربح غير مشروع خلال العقد الماضي. ورد وزير على رجل أعمال اعتذر عن عدم التبرع بالمال لافتقاره الى السيولة، بأن أمره باللجوء الى أحد بنوك الدولة للحصول على قرض سريع. هذه المعلومات وغيرها موثّقة في عريضة الادعاء التي أعدها وكلاء النيابة وجمعوا عليها ادلة حسية سمعية وبصرية. لكن وزارة العدل منعت وصول هذه العريضة الى البرلمان لمحاكمة الوزراء المسؤولين والمتهمين، وأمرت بالتعتيم الاعلامي، فكانت الشبكة الالكترونية الوسيلة الوحيدة لنشر كل هذه المعلومات الخطيرة. وبلغ الأتراك أن الحكومة سعت الى التلاعب في سجل العقارات لمصلحة مشروع سكني تتولاه عائلة أردوغان، وأن مقربين منه أحكموا القبضة على عدد كبير من وسائل الإعلام، نزولاً على أوامر رئيس الوزراء. لا شك في ان فرض الحكومة التركية قيوداً على الشبكة الالكترونية، يرمي الى التستر على جبل الفساد هذا. وليس الحديث عن دولة داخل الدولة وعن جماعة غولن الانقلابية سوى ذريعة رديئة من أجل ارساء دولة قمعية ناجزة. وتركيا صارت في عهد أردوغان دولة الحزب الواحد. وأصدر 150 من الأكاديميين والعلماء والصحافيين بياناً يوجّه سهام النقد الى الحكومة، جاء فيه «السعي في تصوير ما يحدث على أنه محاولة انقلابية والزعم ان الشعب يخوض معركة استقلال ما هو إلا ذريعة لتسويغ تعطيل القانون وإطاحة دولة القانون. ومدعاة قلق هو نقل أو طرد آلاف من موظفي الدولة بلا سبب واضح أو محاكمة وبيّنات على التهم الموجهة إليهم، وكذلك التأثير في الهيئة العليا للقضاء والتلاعب ببنيتها تلاعباً يطيح استقلال القضاء، ووضع السلطتين التنفيذية والتشريعية في حرب مع القانون والقضاء». ولا يسع الحكومة أن تتنصل من مسؤوليتها شريكة في جرائم جماعة فتح الله غولن في السنوات الاخيرة. وإذا ثبت أن الجماعة أرست فعلاً دولة داخل الدولة- وهو أمر لم تثبته الحكومة بعد- فإن الحكومة هي مَنْ زرع هؤلاء الغولانيين وسلمهم مفاتيح الحكم وسكت عن تجاوزاتهم، وأجاز لهم ظلم كثيرين من أبناء هذا الوطن لأنهم خالفوها الرأي، فلوحِقوا ووصِفوا بالانقلابيين أو العملاء. وتواطؤ الحكومة مع حركة غولن جريمة لا يسعها (الحكومة) التنصل من مسؤوليتها عبر الزعم بأنها تنتقم من هؤلاء و «تنظّف» مؤسسات الدولة من دون الاحتكام الى القضاء ومعايير الشفافية. لا يحق للحكومة أن تهدم أركان الديموقراطية في تركيا وتفسد القضاء لتنجو بجلدها في قضية فساد تكشف عورتها، فتتخلص من جماعة فكت ارتباطها بها من أجل خلاف على مصالح سياسية واقتصادية. ولا ريب في ان ترسيخ أردوغان مفهوم دولة الحزب الواحد والرجل الواحد أخطر ألف مرة من الدولة الخفية أو العميقة الغولانية التي يحدثنا عنها، وحري ألا ننسى أن هذه الدولة العميقة هي التي مكّنت أردوغان من تثبيت نموذج دولته. * كاتب، عن «راديكال» التركية، 6/2/2014، إعداد يوسف الشريف