مدينة حمص، التي يصفها الثوار السوريون بأنها عاصمة ثورتهم، يمكنها أن تكون أيضاً مدخلاً إلى مشروع إنساني لإنقاذ المدنيين من جحيم الصراع الدائر في بلادهم، بعد أن أصبح هؤلاء المدنيون الوقود الفعلي لهذا الصراع. وبصرف النظر عن مزاعم النظام بمحاربة «الإرهابيين»، ومطالب المعارضة بإبعاد بشار الأسد عن الرئاسة وتشكيل هيئة انتقالية تتولى الحكم، فإن مصير المدنيين يجب أن يبقى الأكثر مدعاة للأسى. لقد كانت صور المدنيين الذين شاهدنا عملية إجلائهم من حمص صوراً بليغة ومعبرة عن حجم المأساة التي تصيب آلافَ -إن لم يكن ملايينَ- المدنيين الذين تحاصرهم نيران الطرفين، من دون أي أمل في مخرج أو نهاية قريبة لهذه الحرب المفتوحة. هؤلاء المدنيون المحاصرون، من الجانبين، تحولوا رهائن في يد القوى التي تسيطر على مناطقهم، وتُخضعهم لإرادتها، وتستخدمهم ورقة في حساباتها ومناوراتها على الحصص السياسية. الشيوخ الجائعون الذين كانوا يحلمون بقطعة خبز على مدى سنة ونصف، والأطفال الذين يفتقرون إلى أبسط ظروف التدفئة والتغذية، والنساء اللواتي يعانين من البحث عما يطعمن أولادهن، أو عن لباس يقي أجسادهم النحيلة من البرد، كل هؤلاء يجب أن يكون الاهتمام بمصيرهم وبأوضاعهم أكثر إلحاحاً اليوم من همّ المرحلة الانتقالية أو من عملية البحث عن مستقبل أفضل لما يطلق عليه «سورية الجديدة»، ذلك انه لن يكون هناك معنى لقيام «سورية الجديدة» هذه من دون سوريين يبقون على قيد الحياة للعيش فيها، ولن يكون هناك معنى لها أيضاً في ظل المصير الذي يهدد جيلاً كاملاً من أطفالها وشبانها أصبحوا مشردين في الشوارع، ومحرومين من فرص الحصول على حد أدنى من الدراسة، كما أن بعضهم مرغم على حمل السلاح كوسيلة للارتزاق أو خضوعاً لمشيئة من يتحكمون بهم. ومع الفشل الذي ينتظر المفاوضات التي بدأت أمس في جنيف والهادفة إلى التوصل لحل سياسي، يصبح المشروع الإنساني لإنقاذ حياة المدنيين المحاصرين في حمص وفي كل مكان آخر، أمراً يجب أن يحتل الأولوية بالنسبة إلى المنظمات الدولية، وكذلك بالنسبة إلى طرفي الصراع، الحكم والمعارضة. والرهان يجب أن يكون هنا على ما تبقى من حسّ بشري عند الطرفين، ليسمح بإتاحة الفرص لوصول المساعدات الغذائية والطبية، التي أصبحت أكثر من ملحّة، ولإخراج العجزة والمرضى من مناطق القتال، ولو اقتضى الأمر تأمين ملاجئ لهم خارج الأراضي السورية. لقد بلغت أرقام الضحايا في هذه المجزرة المفتوحة حداً مخيفاً وفادحاً. خلال ثلاث سنوات من القتل سقط ما لا يقل عن 130 ألف شخص، وربما بلغ العدد 150 ألفاً، ووصل عدد المهجرين الذين تم إبعادهم قسراً عن بيوتهم داخل سورية إلى 9 ملايين شخص. هؤلاء انتقلوا إلى مناطق يعتبرونها آمنة، لأنهم يشعرون أنهم يقيمون بين «أهلهم»، أي بين من ينتمون إلى طائفتهم. وبالتأكيد لن يعودوا إلى مناطقهم السابقة، مما يعزز خريطة التقسيم الطائفي التي باتت أكثر وضوحاً. أما عدد الذين لجأوا إلى دول الجوار، فإنه يقارب 3 ملايين شخص، أي أننا نتحدث عما يقارب نصف السوريين اصبحوا اليوم خارج المناطق التي كانوا يقيمون فيها عندما بدأت الثورة السورية على النظام في شهر آذار (مارس) 2011. يوظف كل من النظام والمعارضة هذه الأرقام لمصلحته. النظام يعتبر أن استمرار القتل هو نتيجة الحرب التي يضطر لخوضها ضد من يسميهم «الإرهابيين» و «التكفيريين»، أي أنه يمارس قتل السوريين لإنقاذهم من هذا المصير الأسود الذي يتربص بهم! أما المعارضة، فتعتبر أن القتل والتشريد والتهجير هي نتيجة للسياسة الظالمة التي يرتكبها النظام، والتي تهدف إلى تركيع السوريين ودفعهم إلى القبول بما يعرضه عليهم كثمن لوقف أعمال القتل هذه. في كل الحالات، بات من الملح أن يوضع مصير المدنيين كبند أول في أي تفاوض يجري حول الأزمة السورية، خصوصاً أن أي حل سريع وسياسي لهذه الأزمة ليس في الأفق. وإذا كانت الثورة السورية قد بدأت انتفاضة سلمية من الشعب على نظامه، فإنها تحولت اليوم بفعل تصعيد آلة القتل من قبل النظام، وبفعل تشتت المعارضة وعجزها عن الحسم، إلى حرب مفتوحة، وقودها الفعلي هم المدنيون. هؤلاء يجب إخراجهم من ساحة الصراع، كي لا يحصد القتل المفتوح إلا... المقاتلين.