كيف يميز المسؤولون في بلادنا بين القبح والجمال؟ أو كيف يقوّمون القبح والجمال؟ السؤال ليس تعليمياً ولكنه قاعدة اجتماعية للتقويم والمحاسبة والانتخابات، فهذه السياسات والبرامج والمواقف والأفكار التي يتخذها النواب والمسؤولون والقادة تعكس تقويمهم ورؤيتهم للمواطنين والمجتمعات والبلاد أيضاً، وأخشى أن الإجابة ستكون مخيفة، وتؤشر على عدم احترام للمواطنين بل واحتقار عظيم، أو تجاهل كبير. ففي الوقت الذي تجبى من المواطنين ضرائب كبيرة، فإن إنفاقها تتوزعه أولويات تعبر عن شعور نحو المواطن والمجتمع يبعث على المرارة، ويدل على فجوة عميقة، وشعور بالاستعلاء والوصاية وعدم الأهلية وعدم الاستحقاق، فهذه الأحياء شبه العشوائية، والطرق الخالية من الأرصفة، وشبكات الصرف التي تتدفق في كل مكان، والمرافق والخدمات التي تبنى وتدار بلا تفكير في رأي المواطن وراحته واحتياجاته، وهذه الشوارع المرعبة المصممة للسيارات وليس للمشاة، والتي نفذت كما صممت على الورق من دون ملاحظة ومعاينة الطبيعة والجغرافيا والناس، والمرافق والأسواق والمباني التي تقام، وما يسمى أحياء سكنية وهي لا يمكن وصفها بأنها كذلك، وسائر تفصيلات الحياة اليومية تؤكد أن المسؤولين والمقاولين والمهنيين والمخططين والمصممين ومتخذي القرارات لا يملكون الحد الكافي من احترام المواطن والشعور باحتياجاته وراحته، أو أنهم يرونه كائناً غير جدير بالاحترام والمشاركة أو لا يستحق أن يأخذ مقابل الضريبة التي يدفعها أو الأموال التي يقدمها للمقاولين والتجار والموردين والأطباء والمهندسين والمدارس والمستشفيات. وإذا كان الجمال هو التمييز بين القبيح والجميل وبين الحسن والسيئ، فلا بد من أننا (المواطنين والمجتمعات والمدن والبلدات) نبدو في نظر تلك الفئة التي نقدم لها أموالنا وضرائبنا ووليناها على مصالحنا ولحمايتنا وخدمتنا كائنات قبيحة غير جديرة ببيوت يصلها ضوء الشمس وهواء الطبيعة ويمكن أن تكون دافئة في الشتاء وباردة في الصيف وتعطينا شعوراً بالخصوصية والدفء والجمال والاتساق على رغم أننا ننفق على البناء والسكن مثل أو أكثر من المجتمعات الغنية، وأن مواد البناء المتاحة والطبيعة لدينا تتيح كما أتاحت لآبائنا من قبل الفرصة للحصول على بيوت جميلة ومريحة وواسعة من دون تدخلات تقنية مكلفة، ولكننا نحتاج إلى مهندسين ومقاولين ومسؤولين يصدقون أننا بشر جميلون نستحق أكثر من هذه الصناديق الاسمنتية. إنك تشاهد شوارع وأرصفة في المدن والبلدات لا يمكن إنساناً أو حيواناً أو مركبة أن تسير عليها، وتقع فيها كل يوم حوادث مرورية مرعبة، فتتساءل هل يعقل أن مهندساً تخرج في جامعة أو مسؤولاً في وزارة أو بلدية يمكن أن يفكر بمثل هذا الشارع الذي كان الناس الأميون بحدسهم الفطري وملاحظتهم الطبيعية لطريقة تحرك الإنسان والحيوان أن يشقوا أفضل منه وأكثر أماناً بكثير، وكيف يرى القائمون على التعليم الأطفال الذين يجب أن يعلموهم؟ أية رؤية للأطفال تعكسها حمامات المدارس العامة منها والخاصة على السواء؟ وأية فلسفة أو فكرة عن المواطن تقدمها الأحياء والمناطق والمتنزهات الخالية من الحمامات والمرافق العامة؟ ماذا يظن الناس أولئك الذين يجعلون أقرب مدرسة إليهم مكاناً يجب أن تشد إليه الرحال؟ ولكن لنسأل أيضاً كيف نرى أنفسنا؟ وليس فقط كيف يرانا المسؤولون والمديرون والمقاولون والمهندسون؟ إن الديموقراطية والانتخابات تنجح بمقدار وعينا لذاتنا، ومعرفتنا لما يجب أن نكون عليه، وإدراكنا الواضح للقبح والجمال في أنفسنا وحياتنا وخيالنا. تستطيع إدارات المدن والعواصم والمؤسسات الحكومية أن تقيم جسوراً معلقة طويلة وأنفاقاً وشوارع واسعة، وتنظم إقامة أبراج عملاقة ومراكز تجارية واسعة، ولكنها حتى اليوم لم تنجح في حل مشكلة استيعاب وتصريف مياه الأمطار، فالشوارع والبيوت والأحياء والمرافق تصمم وتبنى عندنا وكأن أحداً لا يعرف أن الأمطار تسقط في فصل الشتاء، وعندما تسقط تتخذ المياه مسارات وسيولاً تتدفق فيها أو تتجمع في برك وبحيرات، وكأنها إدارات وشركات قدمت قبل فترة وجيزة من كواكب أو مناطق لا يسقط فيها المطر. أقمنا هذه المدن والأحياء والبيوت الفخمة وشبكات المرافق والخدمات، ولكن أحداً لم يتذكر أن كل حي سكني يحتاج إلى مدرسة أساسية وحديقة، وأن تكون شوارعه ومنافذه مصممة بطريقة تتيح للأطفال والناس جميعهم التحرك بسهولة والقدرة على الوصول إلى المدرسة أو السوق أو الحديقة أو اللعب والترفيه من دون عملية لوجستية معقدة تحتاج إلى إدارة مرهقة وتكاليف وتوتر ونزف في الأوقات والأعصاب والموارد ومغامرات يومية! ما الذي يمنع من إقامة وتصميم الأحياء والمرافق، كما يحدث في جميع دول العالم، بحيث تكون المدرسة قريبة ويمكن الأطفال الوصول إليها سيراً على الأقدام، وأن تتجمع المنازل حول شوارع فرعية غير نافذة بحيث لا تأتي إليها إلا سيارات أهل الحي وزوارهم، وأن تصمم شبكة من المواصلات على أساس قدرة المواطن على الوصول إلى خطوط المواصلات في خمس دقائق. هل يعلم مصممو الطرق والمرافق أن الأرصفة هي في الأصل ليسير عليها الناس؟ وهل يعلمون أن في البلد أطفالاً وكبار سن وأصحاب تحديات حركية واحتياجات خاصة، لماذا يكون السير في الطرق في بلادنا عملية تعذيب وإذلال وصراع واسعة مع السيارات المرعبة والاعتداءات الواسعة على الطرق والأرصفة؟ وهل يعلم مصممو الطرق والمواصلات أن المواطنين ينتطرون على جانب الشارع كل يوم لينتقلوا بوسائل المواصلات وأن هذا يقتضي بالضرورة قدرة المواطن على المشي والوقوف والانتظار من دون أن تغرقه مياه الأمطار والصرف الصحي أو يخوض في البرك والمستنقعات والسيول. فكيف يستطيع المواطن أن يصل إلى عمله بالملابس والمظهر اللائق، أم يفترض المسؤولون والمقاولون أن المواطنين يجب أن يلبسوا «أفرهولات زرقاء» وجزماً طويلة تصل إلى الركبة وأن يكونوا مدربين في «الصاعقة» أو الدفاع المدني حتى يستطيعوا التحرك وركوب وسائل المواصلات؟ سنجد آلاف الأمثلة والأفكار التي تؤكد أن التقنية المتقدمة والجسور والأنفاق والأبراج والحواسيب والموارد المالية لا تكفي لتحقيق التقدم والاحتياجات الأساسية، وأنها (الموارد والتقنيات) لا يمكن استخدامها معزولة عن فلسفة جمالية واجتماعية عميقة تستحضر حياة الناس واحتياجاتهم، وأن المواطنين بحاجة إلى اختيار أشخاص يملكون إحساساً عميقاً بحياة الناس اليومية، ويدركون تماماً معاناتهم الحقيقة وتطلعاتهم التفصيلية نحو الرضا والأمان، وهذه مواهب وإمكانات وقدرات لا تعلّمها الجامعات والوظائف للأسف الشديد، ولا يرثها الشباب مع المناصب التي يصلون إليها بغير التنافس المجتمعي الحقيقي، ولا تتشكل رؤيتها وتقديراتها في السياقات المعزولة عن تراكم تفكير الناس وتواصلهم مع أهدافهم وعلاقاتهم. فالتقدم يقوم أساساً على قيم جمالية تعلم الناس كيف ينظمون مواردهم ويطورونها، كيف يجعلون بيوتهم وطرقهم وأحياءهم ومدنهم وبلداتهم ملائمة لحياتهم، وكيف تبنى وتصمم لتوفر لهم الدفء والتهوئة والإضاءة والخصوصية بذاتها وليس بتكاليف وتدخلات مرهقة ومكلفة، وكيف يجعلون من حياتهم اليومية وأمكنة إقامتهم وعملهم بذاتها وبطبيعة علاقتهم بها مصدراً للرضا والتكافل وتنظيم الاحتياجات الأساسية. ويفترض أن الانتخابات هي عملية مراجعة يشارك فيها الناس في تنظيم حياتهم على النحو الذي يوفر لهم الرفاه، فقد أثبتت إدارات المدن أن الرفاه لا يمكن تحقيقه بالبلايين التي تنفق، ولكن بالجمال الذي ينظم حياة الناس ومواردهم المتاحة. * كاتب أردني