هل صدقت مقولة الإمام محمد عبده: «لن يصلح للشرق إلا إمام مستبد عادل» التي تنسب أحياناً لجمال الدين الأفغاني، وظلت حتى ضحى ما قبل الثورات تجندل وتسلخ من المثقفين العرب، وحتى رهوط من جماعات الإسلام السياسي هل عاد الوعي العربي إلى مواجهة تلك الفحوى الأزلية في الوعي الديني والعربي الأبوي التي تأباها زماناً؟ الثورات العربية تداعت تباعاً، معلنة تقاصرها عن الأجندة التي لأجلها قامت، والتي من ضمنها مقاومة الاستبداد؟ أثبتت الثورات أن أمة العرب لم تتجاوز بعد الذهنية «الرغبوية»، وأنها لم تشارف البعد العقلاني الواعي في ثورتها. شعوب دول الربيع التي تجشمت معرة الثورة كانت تتأمل بحياة الرفاه ودولة الديموقراطية والحريات انتهت إلى أسوأ مما كان يكتنزه مخيالها الحالم بعيداً، مقولة: «المستبد العادل»، هل عاودت تأكيد حقيقتها؟ ذلك هو سؤالي - في ظني أن شعوب الثورات لم تكن في حسبانها أنها ستدخل في تيه أنفاق التشرذم والعنف الذي لم يتخيل مداه مخيال أي مراقب ومتابع، المؤكد أن الزمان لو تمالأ معها لودت أنها لم تندفع نحو الثورة، ولرضيت من الغنيمة بالإياب «الإياب إلى مرحلة المستبد العادل». ما حدث جراء انهيار حلم الثورات أن الإنسان العربي بات يشعر أن بعض الشر أهون من بعض، وأن رمضاء الاستبداديات خير من فيح جحيم الثورات الحارق. واقع الحال يؤكد أن الدول العربية التي ترزح تحت حكم الاستبداد أضحت أحسن حالاً من دول الثورات، لكن هل يعني ذلك أن قدر العرب أن يظلوا أسارى مطارق الاستبداد لأنهم عرب ولأن العروبة تتنابذ مع قيم المدنية والحريات؟ أم أن الإشكال ثقافي يجري على أية أمة من الأمم تحايث ذات الظروف والمعطيات العربية؟ رأيي أن الواقع العربي يعاني من تأزم ثقافي وفكري وذهني، ينابذ أي محاولات نهضوية، وذلك ما كان خلف تهدم الثورات العربية التي انخرطت نحو المستقبل من دون مقدمات توازي أحلام التغيير والتحديث. صحيح أن الدول العربية المحكومة بالاستبداديات تجاوزت كوارث الثورات التي حاقت بالدول التي ابتليت بالثورات، لكن ذلك لا يعني أنها مشكلة بحد ذاتها. كما لا يعني طهرانية الحكومات المستبدة، وإنما يعني كل ذلك أن الوعي العربي لا يزال بحاجة إلى مراجعة أولوياته الفكرية والثقافية، وذلك ما لم يحدث قبل الثورات الفاشلة، فكانت النتيجة تفوق دول الاستبديادات التي حافظت على تنميتها وتماسكها وسيادتها، بخلاف دول الثورات التي خسرت الكثير والكثير. القصة أن الدولة العربية لم تأخذ من الدولة الحديثة «بعد الاستقلال» سوى الشكل الجغرافي والملامح الظاهرية لشكل الدولة، وماعدا ذلك فليس ثمة دولة عربية متماسكة بذاتها كدولة مهيمنة تنطلق في وجودها من مؤسساتها، وليس من مكوناتها الإثنية والآيديولوجية. الدولة العربية مهلهلة تحمل في وجودها قابلية التمزق والتشرذم عند أي تماس مع إمكان الحراك والتعبير، وما بقاء شكل الدولة العربية بعد الاستقلال إلا بسبب القوة والاستبداد اللذين أسهما في الهيمنة على المكونات الاجتماعية والثقافية المتنابذة والمتنافرة كافة، ولعل أول نموذج عربي كشف الغطاء عن وهم الدولة العربية الحديثة «دولة العراق» التي تداعت كعقد انفرط نظمه، ليظهر أن العراق ليس دولة حقيقية، والحال ينسحب على ليبيا ولبنان وسورية ودول عربية أخرى رفعت الثورات عنها ملاءة الدولة، ليستبين أن ماهية الدولة فيها ما هي إلا لحظة سكينة وسلام بين شتاتين وتيهين، وما هيئة الدولة إلا كرماد فوق جمر، وما الثورات إلا كريح حركت الرماد عن الجمر المتمثل «بالعصبوية المتغورة» عميقاً «عصبوية العرق والطائفة». [email protected] abdlahneghemshy@