يقتصر دور هرة سيكيريدا، الخادمة الإثيوبية في رواية الروائي اللبناني رشيد الضعيف على تكرار محاولة دخول بيت مخدومتها أديبة حتى أذنت لها بالدخول وضمّتها إلى أسرتها، ويقتصر ذكرها على صفحتين اثنتين فقط، ومع هذا، يطلق الضعيف اسم «هرة سيكيريدا» على روايته (دار الساقي)، فيكون اسمًا على غير مسمّى، ونكتشف هشاشة العلاقة بين العنوان والمتن إلاّ إذا كان المقصود الإحالة على تلك الفئة المستضعفة من المخلوقات التي تجمع في عدادها الهرة، والخادمة، والعجوز، والبنت المشلولة، والزوجة المهجورة من شخصيات الرواية التي تحتاج إلى المأوى والعطف والحنان. في المتن، تشكّل ظاهرة الحمل خارج الزواج، في ظروف غير طبيعية (الحرب)، وفضاء روائي شعبي، وما يحفّ بها من مواقف مختلفة، وما تؤول إليه من معالجات، السلك المحوري الذي ينتظم أحداث الرواية. وعلى هامش هذه المحورية أسلاك أخرى تتعلّق بخادمات المنازل، والإعاقة الجسدية، وتفكك الأسرة، والخطف خلال الحرب. وتتمخّض الأسلاك المختلفة، المحوري منها والهامشي، عن مجموعة من الشخصيات - الضحايا التي تعرف كيف تتضامن في ما بينها، وتجترح المخارج والحلول لما تمرّ به من أزمات وتقترفه من أخطاء. حين تحمل سيكيريدا، الخادمة الإثيوبية، بعد تعدّد علاقاتها الجنسية التي اندفعت إليها راغبة أو مكرهة، والناجمة عن نظرة مختلفة إلى الجنس ترى فيه نشاطًا حيويًّا كالأكل والشرب وليس شيئًا خاصًّا وحميمًا، يُجمع أقرباء المخدومة أديبة، المرأة السبعينية التي تعاقر الوحدة بعد سفر أبنائها، على ضرورة ترحيلها إلى بلادها، غير أن أديبة التي أنِست إلى خادمتها يكون لها موقف آخر؛ تتدبّر أمر تزويجها زواجًا موقتًا منقطعًا، بمساعدة الشيخ قاسم صاحب الفتاوى الجاهزة، ليكون لابنها المنتظَر أب. تهتم بها حتى إذا ما وضعت تتعهّد الطفل بالعناية والرعاية، وتكون وصيّة عليه وأمًّا فعليّة له. هنا، تكسر الرواية الصورة النمطية للعلاقة بين الخادم والمخدوم، القائمة على ثنائية الأمر والطاعة، والخارجة معظم الأحيان عن الاعتبارات الإنسانية. مع أديبة، ترتقي العلاقة إلى مستوى إنساني يتطور إلى حد التكافؤ. وتتمظهر إنسانية أديبة في احتضان خادمتها رغم الخطيئة التي اقترفتها، وممارسة نوع من الأمومة لابنها. تفعل المستحيل ليشعر بالأمان، تعلّمه، تبحث له عن عمل، تعقد له زواجًا موقتًا على حفيدتها ليحلّ له الدخول عليها بعد إدراكه سن البلوغ، تسعى لإطلاق سراحه بعد خطفه، وتعقد بوصايتها عليه قرانه على أمل، الفتاة المشلولة التي حملت منه. وإذا كان تعاطف أديبة مع الضعفاء وتدبّر المخارج لهم أمرًا مبرّرًا روائيًّا وواقعيًّا باعتبارها عانت ظروفًا مماثلة في صباها، هي التي تتحدّر من أسرة فقيرة عرفت صنوف القهر، فإن هذه الشخصية تبدو مثالية حين تترفّع عن لوم خادمتها الحامل خارج إطار الزواج وتحتضنها وتتدبر لها المخرج المناسب في مجتمع شرقي ذكوري يعتبر الحمل غير الشرعي فضيحة وعارًا، وتبدو مثالية أيضًا حين لا تتورّع عن عقد قران ابن الخادمة غير الشرعي على حفيدتها ابنة الست سنوات ليتسنى لها الانكشاف عليه بعد بلوغه سن الخامسة عشرة، وتبدو ازدواجية حين توافق على ترحيل سوسا خادمتها الأولى الفيليبينية لإجرائها مكالمات هاتفية خارجية مكلفة، فيما تغفر لخادمتها الثانية الإثيوبية سيكيريدا خطيئتها. وعلى تبرّم رضوان ابن سيكيريدا بها ومراقبته إياها وقيامه بضربها إذا ما أخطأت، فإنه يقع في المحظور نفسه، ويرتكب خطأ أمه حين ينزلق إلى علاقة مع أمل الفتاة المشلولة التي كان يعمل لديها، ما يؤدي إلى حملها منه. هنا أيضًا، تتعدد المواقف وتختلف لا سيما في أسرة أمل، وتحديدًا بين أبيها وأمها؛ الأب شخصية سلبية، هروبية، يتنصّل من القيام بواجباته الأسرية والزوجية، ويهرب من مواجهة الوقائع. فحين تولد أمل مشلولة لا يستطيع تحمّل الأمر والاعتراف بالواقع، ويسافر بذريعة العمل. وحين يعلم بواقعة حملها تثور ثائرته، ويأمر بالإجهاض حتى وإن شكّل خطرًا على حياة ابنته، ثم حين تواجهه زوجته بهروبه وتقصيره وتنصّله من واجباته الأسرية والزوجية يتخلى عن مسؤوليته ويلقي بها على عاتق الزوجة وحدها. في المقابل، تشكّل الأم شخصية إيجابية، متفهمة، داعمة، ترضى بقدر ابنتها المشلولة. وحين تصارحها بحملها لا تلومها، وتسعى إلى تدبّر المخرج المناسب بمساعدة أديبة. وهنا، تنطوي على قدر من المثالية وعدم الواقعية؛ فترفّعها عن تأنيب ابنتها على خطأها، وفرحها الضمني بحملها غير المشروع بذريعة حقها في أن تعيش حياتها يضفيان على هذه الشخصية طابعًا مثاليًّا في فضاء اجتماعي شرقي تتحكّم به المواضعات الأخلاقية. على أن المفارق في هذا الفضاء هي الوظيفة التي تسندها الرواية إلى رجل الدين في تيسير الأمور وتدبّر المخارج واجتراح الحلول، فالشيخ قاسم - ونزولاً عند رغبات أديبة - يقدم فتاوى جاهزة درءًا لفضيحة أو سترًا لعيب أو تسويغًا لسلوك. هنا، يتم كسر الصورة النمطية للتشدد الديني في مقاربة المواضيع الأخلاقية. يُسند رشيد الضعيف مهمة الروي إلى راوٍ عليم يتبع خطًّا سرديًّا متكسّرًا في إطار خطّية عامة، ينطلق من نقطة معيّنة (بلوغ رضوان الثالثة عشرة وممارسته الرقابة على أمه ...)، ويعود إلى الوراء مستعيدًا وقائع من حياة الأم (استخدامها، تعدد علاقاتها، حملها، وضعها، علاقتها بمخدومتها...)، ثم يمضي قُدُمًا إلى الأمام (تعلّم رضوان المتقطع، عمله المستجد، علاقته بأمل، حملها، خطفه، عقد قرانه على أمل في غيابه القسري...). على أن خطّية السرد وحركته إلى الأمام كانت تتقطّع بعودات قصيرة إلى الماضي، ما جعل خط السرد يتكسّر في إطار الخطّية العامة. ولذلك، تتناثر الأخبار والوقائع المتعلقة بالشخصية الواحدة على مدى الفصول المختلفة بغضّ النظر عن تسلسل حدوثها، فثمة علاقة غير متوازية بين حركتي السرد والوقائع المسرودة، ويكون على القارئ أن يجمع هذا النثار الروائي كلّما أوغل في القراءة لتشكيل بورتريه هذه الشخصية أو تلك. يتحرّك السرد بين الخارج والداخل في الرواية، ويطغى على الحوار. وكثيرًا ما يتدخّل الراوي في سياق السرد، ويتنوّع التدخل بين الربط والشرح والتفسير والتعليق والتعيين... وقد يضع التدخل بين قوسين أو مزدوجين، فيجمع التدخّل بين الشكل والمضمون. يصوغ رشيد الضعيف نصّه بلغة مباشرة تقترب في بعض مستوياتها من لغة الحكاية الشعبية، وتتخفّف من أثقال البلاغة والإنشاء، وتتراوح مستويات الحوار بين الفصيح وشبه الفصيح والمحكي. ولا يتورّع عن استخدام عبارات نابية تكرّس واقعية الحوار وتمنحه صدقًا فنيًّا. في «هرة سيكيريدا»، يطرح الضعيف موضوعًا على قدر من الحساسية في عالم مرجعي تقليدي، فيفكّك مسكوتًا عنه جديدًا في هذا العالم. وهذه مهمّة أساسية من مهمات الكتابة.