انطوت عمليّة سرفال التي أُطلقت في كانون الثاني (يناير) 2013، على تداعيات مهمّة في مالي. ففيما كان البلد على وشك الانهيار، أتاح له التدخّل الفرنسي استعادة سلامة أراضيه. وقد اجتازت دولة مالي مراحل مهمّة بعد العودة إلى النظام المؤسساتي، وتعزيز السلطة التنفيذيّة التي لطالما كانت موقّتة. وأدّى اتفاق واغادوغو الأوليّ الذي وقع في 18 حزيران (يونيو) 2013، إلى فرض وقف إطلاق نار، ومن ثمّ إجراء انتخابات فاز فيها الرئيس ابراهيم أبو بكر كيتا غالبية الأصوات في آب (أغسطس) 2013. وبالمقارنة مع الأحداث التي شهدتها مالي منذ أكثر من عام تقريباً، لا بدّ من القول إنّ الوضع تحسّن. إلاّ أنّ البلد ما زال يعاني من أزمة عميق. ومن الواضح أنّه يجب قبل كلّ شيء إيجاد حلّ طارئ لقضيّة الشمال، فهي التي تسبّبت باندلاع الأزمة، ولا تزال تشكّل تهديداً رئيسيّاً للنظام الحاليّ. والجدير ذكره أنّ استئناف الاغتيالات في المدن الشمالية منذ الخريف الفائت، وازدياد حدّة التوترات بين الفئات السكانية التي تعيش في الشمال، فضلاً عن انتشار جماعات مسلّحة وطائفية، وصعوبة تفعيل الدولة في الشمال من جديد، تشكّل كلّها تحدّيات من الواجب رفعها. وقد شارك الرئيس ابراهيم أبو بكر كيتا بكامل إرادته في إحياء الحوار الوطني، الذي يشكّل عنصراً أساسيّاً للمصالحة بين الشمال والجنوب. واهتّمت الحكومة بتنظيم مجالس عامّة تعنى باللامركزية، ومؤتمرات وطنية للشمال في باماكو، ومؤتمرات إقليمية في غاو. وشكّلت هذه الخطوات محاولة مثيرة للاهتمام للشروع في حوار لا يضع، كما في السابق، الحكومة وجهاً لوجه، مع الجماعات المسلّحة. ويُشار إلى أنّ منظّمات من المجتمع المدني، خصوصاً في الشمال، اشتركت في المناقشات في باماكو وغاو. مع ذلك، لم تنجح هذه المبادرات بعد في ايجاد حلول حاسمة لقضيّة الشمال، فقد سبق أن تمّ تنظيم مؤتمرات مماثلة على نطاق وطني مرّات عدّة في مالي، لكّنها لم تخلص إلى أي نتائج على الأرض بسبب نقص المتابعة السياسية. علاوةً على ذلك، دفعت رغبة الحكومة بإيجاد حلّ سريع لملفّ الشمال إلى فرض سيطرة كاملة على عملية باماكو. ونظراً إلى أنّ السلطات في مالي أرادت فرض قوانينها الخاصّة، لم تظهر أي استعداد لمناقشات فعليّة مع الجماعات التي تحمل مطالب لا تتماشى مع مصالحها الخاصّة. وبالتالي، رفضت غالبية الجماعات المسلّحة في الشمال المشاركة في هذه اللقاءات، متّهمةً الحكومة بالتحكّم بأسلوب إجراء هذه المحادثات، وإغلاق أي مجال أمام الشروع في حوار حقيقيّ. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه اللقاءات لا يجب أن تكون بديلاً عن محادثات فعليّة يشارك فيها جميع ممثّلي الشمال، بمن فيهم الجماعات المسلّحة. ووفق اتّفاق واغادوغو، ينبغي إطلاق محادثات السلام بعد 60 يوماً من تشكيل الحكومة، إلا أنّ هذه المهلة انقضت في بداية تشرين الثاني (نوفمبر)، علماً أنّ لجنة متابعة هذا الاتفاق وتقييمه، التي تمّ تشكيلها من أجل بناء إطار للمناقشات يفرض اجتماع الأطراف المعنية ومختلف المراقبين الدوليين كلّ شهر، لم تجتمع منذ تشرين الأوّل (أكتوبر) 2013. أمّا تنفيذ اتفاق واغادوغو، والامتثال لأحكامه الرئيسية، فيجب أن يندرجا في أهمّ أولويّات الحكومة في مالي. والحقّ أنّ التواصل بين الحكومة والجماعات المسلحة استمرّ، ولكن خارج الإطار القانوني لاتّفاق واغادوغو. إلى ذلك، جدّدت السلطة علاقاتها مع جزء من قادة الطوارق والقادة العرب فقط بهدف توسيع قاعدتها الشعبية. وخلال الانتخابات النيابية الأخيرة، دعم حزب الرئيس ابراهيم أبو بكر كيتا عدد من المرشّحين الذين ينتمون إلى الجماعات المسلحة أو المقرّبين منها، الأمر الذي سمح للرئيس استعادة جزء من نفوذه في الشمال، آملاً تفكيك الجماعات المسلّحة وإضعافها. غير أنّ هذه الاستراتيجية، وإن ساهمت في إعادة إحلال نوع من الاستقرار بشكل فوريّ، تشكّل في المدى الطويل عائقاً أمام الإصلاحات الضرورية للحكم في الشمال، وتتسبّب بزيادة حدّة التوترات داخل الجماعات المسلّحة. وبعد أن استُبعد بعض الأفراد المنتمين إلى هذه الجماعات عن العلاقات التي تعود بالمنفعة إلى السلطات، شعروا بأنّهم تعرضّوا للغشّ، فما كان منهم إلا أن حاولوا التسلّح من جديد. أمّا الوساطة الأخيرة التي أطلقتها الجزائر، فمن الممكن أن تنجح في إطلاق الحوار بين باماكو والجماعات المسلّحة، إلا أنّ أعضاء الجماعات المسلّحة يرفضون مشاركة المفاوضين غير الموثوق بهم في الاجتماع، لأنّ مواقفهم تشبه مواقف الحكومة. والجدير ذكره أن قضيّة الشمال ليست القضية الوحيدة التي يجب طرحها في مالي. وفي هذا الصدد، تعهّد فريق الإدارة الجديد بدعم من شركائه الدوليين تطبيق برنامج عامّ وطموح لإجراء إصلاحات في الحكم. وفي الماضي، اعتاد المسؤولون في الدولة إلقاء خطابات حول ضرورة التغيير، لإخفاء فشلهم في تحقيق أي تغيّر فعليّ. وقد يتكرّر هذا الأمر مجدّداً في حال لم يتّخذ الرئيس سريعاً خطوات جريئة لا تقتصر على التنازلات الرمزية التي قدّمها لمناصريه. ولا شكّ في أنّ جزءاً من المسؤولية يقع على عاتق مناصري الرئيس، بسبب انجرافهم وراء هذه النزعة في مالي، لذا لا مفرّ من إجراء تقييم دقيق لما حصل بعدما أدرك شركاء مالي أنّ «النموذج المالي» مبني على أسس خاطئة. ولا بدّ في النهاية من ذكر بعض الأمور الإيجابية في مالي. إذ إنّ العودة إلى النظام المؤسساتي إنجاز مهم. إلا أنّه يجب اجتياز طريق طويل لتفادي حصول تداعيات جديدة. لذا، على جميع الأطراف المعنية أن تعي أنّ تطبيق عملية عسكرية خارجية وإجراء انتخابات وحدها لا يكفلان تطبيق إصلاحات وتحقيق مصالحة وطنية في البلاد في المدى الطويل. وعلى الرئيس المالي أن يدرك أنّ شرعيّته الانتخابية المهمّة تعطيه فرصةً لا مثيل لها إنمّا قصيرة جدّاً لاتّخاذ قرارات جريئة وصادقة تساعد البلاد على النهوض مجدّداً. * المحلل الرئيسي لمنطقة الساحل لدى «مجموعة الأزمات الدولية»