لم تفلح احتفالية الذكرى الثالثة لثورة يناير في تجاوز مشهد الأزمة الذي تعيشه مصر الآن. فغياب معظم نشطاء الثورة عن مشهد الاحتفال الذي تحول إلى مهرجان انتخابي للفريق السيسي كان إحدى علامات هذا اليوم. كما أن هناك علامة أخرى مهمة وهي انزلاق مصر باتجاه مزيد من الفوضى والعنف بعد قيام الجماعات الإرهابية بتفجير مديرية أمن القاهرة، ثم إسقاط طائرة عسكرية في سيناء واستهداف حافلة تقل أفراداً من الجيش هناك، وهي الحوادث التي راح ضحيتها 13 من جنود الجيش والشرطة، إضافة إلى 50 قتيلاً من متظاهري «الإخوان» سقطوا في مواجهات متفرقة مع الأمن المصري. فحقائق هذا المشهد تشي بأن الثورة في حد ذاتها أصبحت مفهوماً ملتبساً، فطرفا الصراع في مصر ينظران إلى «براديغما» ثورية (أطر متكاملة للثورة) يعيدان من خلالها إنتاج المفهوم في شكل متناقض يهدف إلى تبرير ما يمارسانه من عنف، ما أوقعهما معاً في أسر ما أطلق عليه شوبنهاور «الأنانية النظرية»، وهي حالة من جنون العظمة تتلبس جماعة من الأفراد، فتدفعهم إلى الاعتقاد بأنهم مُلاك الحقيقة المطلقة. ووفقاً للبراديغما الثورية «الإخوانية»، فالعسكر نفذوا منذ سقوط مبارك مخططاً مُحكماً للانقضاض على الثورة عبر توظيفهم الصراع بين الإسلاميين وخصومهم من قوى علمانية وثورية لتفكيك الجبهة الثورية، ثم الانفراد بأطرافها كل واحد على حدة. فأغروا الإسلاميين بلعبة الانتخابات لتأجيج حقد خصومهم الذين سيفشلون انتخابياً بفعل ضعف قاعدتهم، ووقتها يمكن العسكر الانقضاض على السلطة بمساندة تلك القوى العلمانية والثورية. وهو ما تجلى، من وجهة نظر «الإخوان» في إطاحة مرسي والدستور ومجلس الشورى وعودة الجيش إلى المشهد السياسي بعدما غلّت الدولة العميقة يد الرئيس «الإخواني»، وحالت بينه وبين تطهير القضاء والإعلام والداخلية. فلم يكن غريباً أن تتقدم «الإخوان» باعتذار إلى رفاقها من ثوار يناير عن استسلامها لخديعة العسكر، وإخفاقهم في حشد القوى الثورية حول هدف الثورة الرئيسي وهو تطهير الدولة ومؤسساتها. فهذا الاعتذار المتأخر جداً يمثل ببساطة أحد أطر تلك البراديغما «الإخوانية» التي تدق على وتر مؤامرة الدولة العميقة باستمرار، سواء لتبرير فشل «الإخوان» في إدارة الدولة خلال تلك المرحلة الدقيقة من عمر تحولها الديموقراطي، أو لتوزيع اتهامات بلهاء من نوعية ضلوع الجيش والأمن في تفجير مديرية أمن القاهرة وذلك لتشويه «الإخوان» وحرف بصر المصريين عن حراكهم الثوري. وتلك أنانية نظرية تستهين بعقول الناس ومشاعرهم الرافضة ذلك الإرهاب الوحشي الذي يضرب مصر الآن وتتحمل جماعة «الإخوان» مقداراً من المسؤولية السياسية عنه. أما بالنسبة إلى تحالف 30 يونيو فأنتج هو الآخر أطراً سياسية جديدة تهدف إلى تكييف ممارسات الجهاز الأمني القمعية العنيفة مع قيم المنظومة الديموقراطية التي تناقضها جذرياً، انطلاقاً من المبدأ الماركسي الشهير القائل إن الغاية تبرر الوسيلة. فتلك الممارسات الأمنية باتت تتدثر برداء ديموقراطي يناسب ثورتي 25 يناير و30 يونيو. فالديموقراطية الحقيقية في مصر لن تبدأ فعلياً إلا بعد القضاء نهائياً على جماعة «الإخوان» التي سطت على ثورة يناير وأمّمتها لمصلحة أطماعها الأيديولوجية. كما أن إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية نزيهة في مصر يُعد في حد ذاته إنجازاً غير مسبوق يمكنه أن ينهض بمفرده دليلاً على ديموقراطية النظام المصري القائم بعد 30 يونيو. وعلى رغم أن تلك البراديغما صحيحة، في ما يتعلق بالشق الأول وهو محاولة «الإخوان» السطو على الثورة، إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون مبرراً لموجة جديدة من الديكتاتورية. فمعارضة فاشية «الإخوان» وديكتاتوريتها، كانت تستوجب الاستعاضة عن نموذجهم في الحكم بنموذج جديد يمثل بديلاً ديموقراطياً متكاملاً على صعيدي البنية المؤسسية والثقافة السياسية. فمن آفات الحكم «الإخواني» التي ثار ضدها الجميع اختزال الديموقراطية في الصندوق، ومن ثم تجاهل تجلياتها الأخرى المتعلقة بالطبيعة التعددية للمجتمع وللخطاب السياسي. ومن ثم، فإن اختزال الديموقراطية في الصندوق من جديد يعني أننا بصدد أنانية نظرية مضادة تبرر عنف الجهاز الأمني ووحشيته، وأحادية الخطاب السياسي في مصر مستهينة بذلك بعقول الناس التي خرجت ضد مرسي خوفاً من الفاشية وطلباً للمزيد من الديموقراطية. لذلك، يمكن القول في النهاية إن استدعاء النخب المدنية المصرية بتنويعاتها الإسلامية والعلمانية والثورية لحلم التحول التاريخي الضخم الذي حلم به المصريون بعد ثورة يناير وجددته لديهم انتفاضة 30 يونيو هو من قبيل الديماغوجيا السياسية لا أكثر ولا أقل. فتلك النخب ببساطة لم تغير استراتيجيتها القديمة التي هيمنت عليها منذ ستة عقود وتمحورت حول تأجيج صراع سياسي وأيديولوجي شكلي وزاعق في ما بينها لا يهدف في النهاية، إلا إلى الحصول على فتات مائدة جماعة الحكم الحقيقية المتنفذة في الجهاز البيروقراطي المصري والتي أدارت الدولة منذ ثورة تموز (يوليو) 1952 حتى الآن. ومن ثم، فاعتراف «الإخوان» بخطئها في التحالف مع المجلس العسكري لا يمكن أبداً اعتباره من قبيل أدب الخطيئة الأولى. كما أن قفز خصومهم للحصول على نصيبهم من حظوة جماعة الحكم الدولتية يعني أنهم لم يستوعبوا جيداً أن «الإخوان» أخطأت فعلاً بعقدها هذا التحالف. * كاتب مصري