لا يكشف فيلم «12 سنة من العبودية» للمخرج ستيف ماكوين عن أسرار أو خفايا جديدة في تاريخ العبودية التي شهدتها الولاياتالمتحدة الأميركية، وإنما يدين بهدوء ويحتج من دون أي ضجيج، فهذا التاريخ القاتم تناولته السينما والرواية والمسرح بمعالجات ورؤى شتى بدءاً من فيلم «ميلاد أمة» (1915) لغريفيث، و «ذهب مع الريح» (1939) مروراً برواية «جذور» لأليكس هيلي والمسلسل المستوحى منها في السبعينات من القرن الماضي، وصولاً الى فيلم «لنكولن»... حكايات العبودية المريرة إذاً، سردت مراراً، فما الجديد الذي يحمله فيلم ماكوين الذي رشّح لتسع جوائز أوسكار، بينها أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل ممثل، وهي من أهم الجوائز، كما يعرف نقاد السينما؟ لن يخوض الفيلم في ملابسات أو تفاصيل هذا الأرشيف الأميركي البغيض، بل تنهض بنيته على حكاية رجل من أصول أفريقية؛ ذي بشرة سمراء داكنة، قاده حظّه العاثر ليكون ضحية لمدة 12 سنة كما يشير عنوان الفيلم المستوحى من قصة حقيقية. على مدى (134 دقيقة زمن الفيلم) سنصغي الى حكاية سولومون نورثوب (شيويتل إيجيوفور)، عازف الكمان الذي يعيش مع زوجته وطفليه في نيويورك حياة هادئة؛ مستقرة. يكسب قوته من عزفه الكمان، ولا شيء يعكر صفو هذه الحياة الهانئة، كما يظهر في اللقطات الأولى في الفيلم. لكن سرعان ما تتبدل الأحوال، ففي عام 1841 يقع الرجل ضحية خدعة، إذ يوهمه رجلان بعقد صفقة موسيقية معه، بيد أن الصفقة القاتلة تقوده إلى ولاية لويزيانا في الجنوب الأميركي حيث ازدهرت العبودية، ليمضي الرجل أكثر من عقد في جحيم لا يطاق. الأغلال والسياط والإذلال والجوع والعمل الشاق في المزارع وحقول القطن، والإهانة والحرمان... تشكل مفردات هذا العالم الجديد، فحياته التي كانت مضبوطة كأوتار كمانه تختزل إلى قائمة طويلة من الأوامر والنواهي. كل شيء ممنوع سوى العمل المضني، والعذاب الذي لا ينتهي، ناهيك عن اللوعة التي تنهش روح سولومون وهو يهفو إلى سماع ولو مجرد خبر صغير عن أسرته البعيدة. وككل نهاية سعيدة يأتي نجار كندي (براد بيت) إلى القصر المنيف للسيد الأبيض بيت ايبس (مايكل فاسبندر) ليخوض حواراً عميقاً معه يظهر فلسفة الفيلم الذي ينفي كل الذرائع والحجج التي تبرر العبودية والرق، فهذه الممارسات مرفوضة اخلاقياً ودينياً، ومن يوصف ب «العبد» هو بشر وليس ملكية خاصة؛ ديانة العالم الجديد. بدا هذا المشهد الحواري المحكم نوعاً من التجديف وفق المعايير التي كانت سائدة منتصف القرن الناسع عشر، زمن الفيلم. يتعاطف النجار، المناهض لفكرة العبودية، مع محنة الرجل ويعده بالمساعدة، وهو يفي بوعده حقاً إلى أن يستعيد الرجل حريته واسمه وهويته الحقيقة ليعود إلى أسرته وقد أصبح جداً، ليعتذر، في مشهد ختامي مؤثر، عن كل هذا الغياب. أداء عفوي الميزة الأولى للفيلم تأتي من الأداء العفوي المدهش للممثل البريطاني من أصل نيجيري شيويتل إيجيوفور الذي يؤدي دور البطل ورشّح عنه لجائزة أفضل ممثل. ليس في وجهه الباكي أي ملمح للحقد أو الضغينة، حيث لا يملك المشاهد إلا أن يتعاطف معه منذ المشاهد الأولى. فهو استطاع أن يجسد الهلع والخوف عبر نظراته المتوسلة العنيدة التي أوحت بأن الأمل بعيد أو معدوم، غير ان هذه الهشاشة انطوت كذلك على التحدي والعنفوان كما بدا في مشهد الإعدام الذي نجا منها بأعجوبة فلم يكن يفصل بينه وبين الموت سوى أصابع رجليه التي تحملت جسده الثقيل، وهو لم يكن يأبه لحياته التعسة، غير أن ثمة جرحاً غائراً في روحه عندما حرم من أسرته التي يحلم بلقائها، مجدداً، ذات يوم. يمكن وضع هذا الأداء ضمن معادلة تبدو متناقضة، فهو من جهة «عبد» بالإكراه لا رأي له ولا مكانة ولا قيمة، وتمكن من نقل هذا العجز، ومن جهة ثانية تمكن من إظهار معنى الكرامة والاعتداد بالنفس، عبر أكثر من مشهد تمرد فيها وهو يعلم أن التمرد قد يقوده الى حتفه. والواقع أن ثمة من كان يفضل الموت ولا يحظى به، ففي مشهد السفينة التي تنقل جموع «العبيد» يموت أحدهم إثر مشاجرة، فيلقي به اصدقاؤه في مياه البحر، بينما يردد أحدهم مخاطباً الميت: «أنت افضل حالاً منا»، في رمزية توحي بالواقع المأسوي الذي عاشه أولئك المعذبون في بلاد العم سام. يروي ماكوين حكاية الفيلم عبر سرد تقليدي، غير أن هذا السرد فيه من التناغم والانسجام ما يجعله ملحمة درامية تحفل بالصور والمشاهد واللقطات التي تظهر وحشية الرجل الأبيض وهو ينقضّ على الرجال ذوي البشرة الداكنة من دون أية شفقة او رحمة. وإزاء هذه الوحشية يحوي الفيلم كذلك مساراً شاعرياً عبر مشاهد تظهر سحر الطبيعة في الريف الأميركي. حقول القطن البيضاء، الأشجار الوارفة والدروب الظليلة والليالي الوديعة تتآلف أمام الكاميرا التي تتحرك ببطء في ذلك الغمر البعيد الصامت والنائي، منتقلة من مشاهد بانورامية واسعة ترصد تلك المروج الخضر النضرة، إلى لقطات مقرّبة تظهر تلك الأنامل الخشنة وهي تمتد إلى لوزة القطن، او تقترب من الظهور الدامية التي ألهبتها السياط أو من العيون الدامعة التي تترقب خلاصاً مستحيلاً. السيناريو يوثّق وجاء سيناريو جون ريدلي موفقاً إذ وثق الفترة التي تدور فيها الأحداث، واستطاع أن ينقل ثقافة المكان ضمن فضاء وفيِّ لصورة بلاد العم سام، بينما حرص المخرج ماكوين على تصوير كل المشاهد الخارجية في مزرعة لا تبعد سوى أميال قليلة عن المزرعة التي أمضى فيها سولمون عبودية الاثني عشر عاماً، في محاولة للعثور على إشارات توقظ لدى فريقه سخطاً خفياً إزاء حقبة سوداء في تاريخ بلد يتفاخر بتمثال الحرية. ويمضي الزمن الطويل لأحداث الفيلم ضمن حلقة دائرية تضيع معها الأيام والأشهر والسنوات، فالزمن متشابه في بؤسه ومرارته، لكنه ثقيل على من عاش المعاناة، وهذا ما يشد انتباه المونتير والمخرج، فالشريط يدخل إلى أعماق الجحيم ويرصد المآسي بعيني من خبرها ورآها، فهذه أم تحرم من طفلها، وتلك فتاة تتعرض للاغتصاب، وذاك رجل يعدم لمجرد إبداء رأي مخالف... وهكذا تتحول هذه الشريحة من ذوي البشرة الداكنة إلى موتى مؤجلين، فهم ليسوا «خدماً» في حقول القطن والقصب فحسب، بل كذلك هم أشبه ب «شعب في حقل الرماية».