هجره سكانه الأصليون، وأحاطه مستأجروه الأولون، واستحلاه زائروه الموسميون، وترقبه منتفعوه التجاريون، واقتص منه أعداؤه التاريخيون. ورغم أن طقس المدينة برمتها كان يميل إلى الحرارة بأجواء شتوية دافئة، فإن آثار الدفء لم تبد عليه. مداخله مؤمنة تماماً ومخارجه مسيجة كلية. حركة بناء تجري على قدم وساق يميناً حيث الفندق الشهير الذي شهد عهود عز وسنوات خزي ومبنى جديد يجري تشييده بهمة وعزم واضحين. الواضح أنه صار ميداناً بلا طعم مميز أو لون متحيز، وإن كانت رائحة السنوات الثلاث الماضية تنضح من أرجائه، حيث اختلاط عبق الفل والياسمين مع عطب المياه الراكدة وعطن النباتات المتعفنة. المارون عبره يجذبهم حب استطلاع استكشاف أحوال الميدان ويدفعهم ميل ما إلى اجتياز تجربة عبور الميدان الأشهر في العالم بعد ليالٍ ملاح لذكرى الثورة وأحداث جسام لمواجهات الإخوان واشتباكات رهاب لدحر مجموعات تسمي نفسها «شباب الثورة»، وبعضهم قرر أن تطأ قدماه قلب الميدان في ذكرى حدث حاسم ويوم فاصل من أيام ثورة يناير، ألا وهو «جمعة الغضب» في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات. وما بين اليومين 28 كانون الثاني (يناير) 2011 و2014 يقبع الميدان في المكان نفسه. إنه ميدان «التحرير» بريدياً، «الثورة» معنوياً، «الحرية» فكرياً، «الحلبة» فعلياً. باعة الشاي والسندويتشات والبطاطا الجوالون الذين امتلكوا الميدان بوضع الأيدي والأرجل والفرشات والهيمنات على مدار السنوات الثلاث الماضية تمت زحزحتهم حيث تمركزوا على المداخل والمخارج. تمنى عابرو الميدان عشية ذكرى «جمعة الغضب» أن يلوح في جنباته مؤشر ما إلى الاستقرار أو أمارة هنا أو هناك على الاستبيان أو علامة من السماء على أن القادم أفضل وليس أفظع. وبنبرة جهورية ومعرفة فطرية يصيح «جنايني» الحكومة المنشغل بري صينية الميدان الشهيرة المزروعة للمرة العاشرة أو يزيد «برضه هتحلو» وكأنه يزرع أملاً تبدد ويزرع رجاء تهشم في نفوس العابرين. تسللت ابتسامة كانت مهددة بالانقراض والانقشاع على وجوه كل من سمعه. ورغم ذلك ظل مشهد الميدان في اليوم ال 1096 (حيث إن 2012 كانت سنة كبيسة) من الثورة مشهداً غريباً عجيباً. عجب سماع نباح صوت الكلاب الضالة وصدى الصوت الناجم عنه في عرض الميدان لا يضاهيه سوى غرابة مشهد الغربان الباحثة عن غذاء في قلبه. قلب الميدان الذي كان ينبض بحركة محاله التجارية والتي استبدلت بحركات ثورية ثم اقتنصت بشطحات إسلامية ومن ثم أجهضت بتحركات أمنية وأخيراً آلت إلى تخوفات شعبية وتوجسات تجارية وتواجدات عسكرية يجد نفسه صباح «جمعة الغضب» المصرية في 2011 الموافقة ل «ثلثاء غضب مهيب» إخوانياً في 2014 في حال استنفار أمني وشعبي انتظاراً لتحركات قواعد الجماعة الجاري توجيهها عبر بيان «التحالف الوطني لدعم الشرعية ورفض الانقلاب» الإخواني والداعي صراحة للمزيد من التصعيد «السلمي» حيث «المجال أمامكم مفتوح للإبداع الثوري الناجز، وتصعيد غضبتكم بكل السبل السلمية الممكنة» حيث غاية المنى ومنتهى الأمل «فليسقط النظام عسكر قضاء إعلام». كاميرات الإعلام القابعة خلف زجاج الشرفات المطلة على الميدان والمستأجرة هنا وهناك تسترد أنفاسها استعداداً لحدث مرتقب أو حادث متوقع ينقلونه للمشاهد بينما يحدث. فالميدان وإن عز على سيطرة الإخوان بحكم المدرعات القابعة على المداخل والأمن الكامن في الشوارع وأصحاب المحال المستعدين لمجابهة فعاليات الجماعة ب «سلمية» تفوق سلميتهم و «وداعة» تتعدى «وداعتهم» و «ثورية» تهزم «ثوريتهم». ثوريتهم وثوريتنا تتجاذبها جدران «التحرير» حيث بقايا ثورية شبابية شاخت وشابت قبل الأوان وعبارة خالدة «الشعب يريد إسقاط النظام» لم يتبق منها إلا كلمة «النظام»، وشطحات إخوانية سادت ثم طغت فبارت وانتهت ولم تعد «نحمل الخير لمصر» سوى بقايا شعار انتخابي ممزق و «مصر إسلامية» إلا نصب جدارية عدة، وتسيد انقلاب الإرادة الشعبية ما تبقى من كتابات جدارية لم تمحها أتربة السنوات الثلاث أو طبقات الطلاء المتكرر عبر «ميدان بلا إخوان». لكن الميدان أيضاً بلا شواهد تدل على أن ثواراً مروا من هنا، باستثناء الغرافيتي الضخم المهيمن على سور الجامعة الأميركية حيث الجدار الملون بألوان ملابس الجيش المموهة وإلى جواره وجه أحد شهداء أحداث محمد محمود وتمتد منه خيوط عنكبوت على خلفية خفاش ربما رمزاً للتعامي عن الحق. «حق الشعب عليك» هي السمة الغالبة على ميدان التحرير اليوم، حيث لافتات عملاقة وملصقات دوارة تطالب وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي بالترشح للرئاسة باعتباره أمراً شعبياً وليس رغبة شخصية، وهي المطالبة المنصوص عليها بطول مركز البيروقراطية في مصر «مجمع التحرير». اللافتة العملاقة تنص على أنه «بأمر الشعب! استجب»! وتليها صورة السيسي مذيلة بترجمة متعددة اللغات لفعل الأمر «استجب». استجابة كبيرة يلقاها جنود الجيش الواقفون على مداخل ومخارج الميدان من قبل العابرين والعابرات لتفتيش الحقائب والتدقيق في الهويات مع كثير من الدعاء الشعبي «ربنا يحميكم ويبارك فيكم». لكن تظل البركة نسبية والحماية ميدانية والقضية انتقامية. فالبيان الرقم 174 ل «تحالف دعم الشرعية» يقول: «بالتزامن مع ذكرى جمعة الغضب، يقف الرئيس الشرعي المنتخب في يوم اعتقاله ذاته في 2011م خلف القضبان في قضية انتقامية مفبركة، فاحتشدوا تضامناً مع رمز الثورة ووفاءً للشهداء في ميادين الثورة وحيث مكان محاكمة الرئيس، والقرار الميداني لكم، ويغير التكتيكات المعتادة وبما يجعله يوم غضب مهيب، وأبدعوا في مواجهة أي معتدٍ أثيم، واسحقوا الباطل بكل الوسائل السلمية الممكنة». لكن همهمات العابرين وحوارات الجالسين تصب في خانة واحدة، إنها خانة السيسي.