شاء الشعب المصري ان ينفض عنه رداء المراهقة ويصل الى النضج والوعي السياسيين مسترشداً بحضارات وقيم ضاربة في جذور التاريخ، ونبذ – بفطرته - الاستبداد وحكم الفرد والفساد والطائفية والعنف والترهيب. وبالتالي حق علينا أن نهنئه على ما وصل اليه ونرفع عنه اتهام «المراهقة المتأخرة»، ونشيد بنضوج المرأة المصرية في شكل أسرع، فهي التي قادت الثورتين وكانت أكثر أفراد الشعب حماسةً وتحملاً للمسؤولية، كما تجلى في مشاركتها الواعية في استفتاء كانون الثاني (يناير) 2014. إلا أن لسان حال بعض شبابنا يؤكد انهم ما زالوا يمرون بمرحلة المراهقة السياسية التي هي مرحلة اضطرابات وفشل في اتخاذ القرارات الصحيحة. وأهم ما يميزها مستويات عالية من موجات الغضب، يتم التعبير عنها بالانفعالات الشديدة وتزايد الاحساس بالقلق والخوف وعدم القدرة على اتخاذ القرار، والاضطرابات في الشخصية أو في الهوية، والعيش في أحلام اليقظة. وأستشهد في رصد هذه الحالات لشبابنا، بمقاطعة بعضهم الاستفتاء على الدستور او الأسس التى رأوا فيها سبباً للتصويت ب «لا» على الدستور. ومع الايمان بحرية الرأي، إلا أن المدهش هو أسس الرفض التي لا تنبع من الدستور ومواده، لكن من هؤلاء الرافضين أنفسهم. ومن أهم أسباب المقاطعة او الرفض: - المخالفة هي اسلوب التغيير وليس الموافقة. - الدستور شارك فيه من حارب الثورة، فما شابه باطل فهو باطل. - الدستور بالتأكيد عمل غير كامل وغير متوافق تماماً مع افكار الشباب، فانطلاقاً من الفكر الشمولي للمراهق «الكل أو لا شيء»، لا بد من رفضه. - إن العند أساس للتميز. – أهمية عدم الانسياق وراء المجموع الذي سبق وأخطأ وأيّد «الإخوان» في زمن غير بعيد. - إسقاط «دستور المؤسسة العسكرية» الذي يحميها، فهي ما زالت المؤسسة التى لم تُهدم في 25 يناير ولا بد من هدمها حتى وإن كانت هي التى نصرت الشباب والشعب معه في 30 حزيران (يونيو)، فالمهم الهدم، للبناء من جديد «على نظافة» لكل شيء. - رفض السلطة وكل ما يأتي من جانبها، فالدستور جاء من خلال لجنة عيّنتها السلطة، فلا بد من ان تكون منحازة اليها. - إن الاعتراض يجلب المنافع الشخصية كما حدث عقب ثورة 25 يناير من انتفاع وظهور لفئة «المنتفعين بالثورة»، وبالتالي فالتوافق مع السلطة قد يؤدي الى فقدان مزايا حصلوا عليها. - التردد والخوف والقلق المتزايد من اتخاذ أي قرار، فالظرف غير مناسب لاتخاذ قرار خطير كالدستور. - توثيق أو إثبات عملية الاعتراض لضمان خط الرجعة وحفظ الحق في التباهي «او حتى الشماتة» اذا ثبت خطأ الجماهير ليقولوا اننا «رفضنا ذلك». ما سبق يؤكد حال المراهقة وعدم النضج السياسي لهؤلاء الشباب، فهم يصوّتون انطلاقاً من موقف داخلي ذاتي ونظرة محدودة الى مصلحة ذاتية آنية. في حين أن ممارسة السياسة تتطلب وعياً مجتمعياً، وهي ليست مجالاً للمثاليات الخيالية او الكليات الفرضية (الكل او لا شيء) الخارجة عن قدرات المجتمع وظروفه الواقعية، وانما هي فن الممكن في ادارة السلطات. ولأن السلطة في حد ذاتها منتقدة من كل مراهق ومرفوضة في فكر أي شاب، فإن المراهقة السياسية تتفاقم مع احساس الشباب بالثورة، فيرى نفسه معزولاً مع توجه المجتمع الى أي اتجاه مخالف لحال «الثورة والرفض»، ويجعل بعضه يعتنق – عن خطأ - أفكار الرفض لكل افكار «الاستقرار» باعتبارها تعني «استمراراً لحال الخطأ»، وهو فهم خاطئ. فعلى سبيل المثال، معروف أن كل المدارس الجديدة لعلم الاجتماع تؤكد دور الأخلاق والمبادئ الانسانية في السياسة، كما أن إجماع المجتمع على رأي لا يعني بالضرورة خطأه، بل على العكس صحته، ولم يلق «الاخوان المسلمون» «إجماعاً» يوماً ما من الشعب المصري، بل فاز الرئيس المعزول محمد مرسي في الجولة الثانية ب 7,51 في المئة واعتُمد دستور 2012 بنسبة 63 في المئة ونسب مشاركة أقل كثيراً من نسبة مشاركة دستور 2013 التى بلغت 6,38 في المئة. والملاحظ أن الشباب الصادق الاحساس الوطني مر منذ 2011 بصعوبات واتهامات كثيرة جعلته أكثر تعصباً لرأيه، وهي من سمات المراهقة المؤكدة. كما تبعته في التعصب فئة «منتفعي الثورة» ومعظمها أيضاً من الشباب - سواء العاطلون او العاملون ممن وجدوا في الثورة فرصة للاعتصامات وفرض الرأي ب «البلطجة الشبابية» ورأيناهم في كل المؤسسات والمصالح يبحثون عن حقوق يفترضونها لأنفسهم ولا يرون عليهم واجباتهم الواضحة للعيان – وأهمها القيام بأعمالهم بتفانٍ ومن دون تقصير، ويرفضون مساواتهم بالغير على أساس «كفاحهم الثوري» – وهو غالباً «وهم» اخترعوه -، فمشاركتهم بالنشاط السياسي والاجتماعي جاءت للاستفادة منه وليست دفاعاً عن مبادئ، وهكذا فاز هؤلاء بصفة «مرتزقة ثورة» وأصبحوا يرتبطون بحالة الثورة برابطة نفعية يصعب فصمها، فكما خلق النظام القديم «بلطجية الانتخابات»، خلقت فترة الثورة الطويلة التي عاشت فيها مصر قرابة ثلاث سنوات فئة جديدة عددها بالملايين وموجودة في كل مكان حتى خارج مصر هم «مرتزقتها». وأبرز سمات هذه الفئة «الانانية المفرطة» ورفض القوانين، ورفض دولة القانون الذي أول أسسه المساواة، بحجة انها دولة «لا عدالة»، مع أن المساواة هي أولى خطوات العدالة. وتبحث هذه الفئة عن منفعتها الشخصية، وليس المجتمعية، والمباشرة في أي خطة مستقبلية، وتعيش على الاتهام والتخوين. وهكذا فمنذ 30 يونيو، وعلى رغم مشاركة الشباب الفعالة في هذه الثورة الشعبية المتلاحمة، إلا ان بعضهم فشل في التغلب على نوازع المراهقة أو سلاسل «مرتزقة الثورة» ولم يستطع أن يخرج من التفكير الأناني-المادي الطبيعي للمراهق إلى التفكير الجمعي-المعنوي، ومن السطحية النفعية والنظرة الخارجية للأمور إلى التفكير المستقبلي القادر على نقد الذات وتأمل المحيط الخارجي في الوقت نفسه. وتخوف بعضهم من ان تطغى «ثورة الجماهير» على «ثورة الشباب» (وهو سوء ظن منتشر بين الشباب تجاه المجتمع)، فمن دون الجماهير لم يكن لثورة شباب 25 يناير ان تنجح، ومن دون حماسة الشباب لم يكن للجماهير ان تخرج ثانية في 30 يونيو. إن مشكلتنا الأساسية هي أزمة فهم، فالقضية الأساسية هي أن ثقافة الدستور والحقوق الدستورية تكاد تكون غائبة في الميدان السياسي من الناحية العملية في كل مراحل الحكم الوطني في مصر. فالفصل بين السلطات والقدرة على التوازن والمراجعة... من القيم الأساسية للدساتير المختلفة الغائبة عن الواقع المصري. فالمشكلة في انفاذ ما يرد بالدستور، وتقوية المواد المتعلقة بالفصل بين السلطات وتوازنها والمحاسبية وحماية الحقوق ونفاذية القوانين وتطوير الرقابة الشعبية وقدراتها على المتابعة وقيام الشباب بدورهم في تطوير المجتمع المدني. ولأن الظرف الحرج الذي يمر به الوطن يضع علينا ضغوطاً زمنية، فلا يترك لنا المساحة والوقت المناسب للشباب المراهق سياسياً للنمو الطبيعي والخروج من هذه المرحلة ليصلوا الى مرحلة «الوعي السياسي الناضج» في شكل طبيعي، فإن هناك جهداً كبيراً لا بد من أن يبذله المجتمع والشباب لإرساء دعائم دولة القانون والقضاء على «مرتزقة الثورة»، لنصل بسلام الي عبور هذه المرحلة الخطرة، وأن نتذكر أن اكثر الشباب مراهقةً هم عادة أكثرهم نضوجاً وإبداعاً عندما يحين الأوان.