منذ ما يزيد على الشهرين والجنوب الليبي، من مرزق غرباً إلى الكفرة شرقاً، مروراً بمدينة سبها، يشهد توترات حادة، ظاهرها نزاعات قبلية وباطنها سياسي، أدى إلى معاناة السكان من نقص حاد في إمدادات الأغذية والدواء والوقود. ولم يدخل غاز الطبخ مدينة الكفرة منذ بضعة أشهر، نظراً إلى قيام عناصر من التبو بقطع الطريق البري بين المدينةالجنوبية والساحل الليبي، وتمركزهم في مقر مكاتب النهر الصناعي قرب حقل السرير النفطي، وفي محطة الكهرباء الغازية في منطقة الشعلة على بعد (400 كيلومتر) من المدينة. وهذه ليست المرة الأولى التي تمرّ فيها المدينة التي تبعد نحو 950 كيلومتراً جنوب بنغازي، بأزمة من هذا النوع، ولكنها تتجدد بين الحين والآخر كلما نشب نزاع واشتباكات بين سكان الكفرة وبين عدد من أبناء قبيلة التبو التشاديين الذين استوطنوا في ضاحية قدرفي قرب الكفرة منذ عقود، وهم مختلفون إلى حد ما عن التبو الليبيين الذين لا توجد إحصاءات محددة لهم ويقطنون منطقة السويدية وسط الكفرة، وليست بينهم وبين مواطنيهم أي مشاكل، إذ يعيشون في ما يشبه العزلة وسط مجتمعهم الليبي، في حين أن صلاتهم الاجتماعية القوية هي بأبناء عمومتهم من قبائل التبو خارج ليبيا والمتواجدين في تشاد والنيجر والسودان. كما أنهم لم يشاركوا التبو التشاديين في اشتباكاتهم المسلحة الأخيرة مع أهالي الكفرة، التي استخدمت فيها أسلحة ثقيلة ومنها مدافع الهاون، كما أبلغ «الحياة» ضابط الأمن في المنطقة العقيد عبد الباري إدريس، مضيفاً أن التبو التشاديين لا يتوقفون منذ أوائل شهر شباط (فبراير) 2012 عن إثارة المشاكل، وإطلاق النار على المواطنين. في المقابل، قال ل «الحياة» آدم آرمي رئيس «التجمع الوطني التباوي» إن «الإشكالية تمتد جذورها إلى أكثر من أربعة عقود حين حدث تزاوج بين مفهوم القبلية وسياسة الدولة وأيديولوجيتها التي رسخت التفرقة بين سكان المنطقة العرب وغير العرب». وأوضح أن «الدولة منذ وصول معمر القذافي إلى الحكم عام 1969، تنظر إلى التبو على أنهم مصدر خطر، لذا عندما اندلعت ثورة 17 فبراير (2011) كان التبو في مقدم المشاركين فيها للتعبير عن مواطنتهم، ولرغبتهم في المشاركة في إدارة الحكم المحلي وفي السياسة، لكن مصالح قبلية مدعومة من الحكومة الليبية الموقتة حالت دون ذلك». وأشار آدرمي إلى «تصرفات بعض المحسوبين على الحكومة الانتقالية مثل حرس الحدود الذي أصدر رسالة تكليف للكتيبة 427 بالتحرك الفوري لاستلام مواقع: النهر الصناعي، ومنطقة الشعلة، ومستودع البريقة من دون إخطار آمر كتيبة أحمد الشريف 425 التي كانت قبل ذلك التكليف تحفظ وتدير المواقع المذكورة، منذ انهيار نظام القذافي». ورأى المسؤول التباوي أن هذه الازدواجية أدت إلى تضارب مصالح واشتباكات مسلحة، أسفرت عن سقوط حوالى 100 قتيل ومئات الجرحى. وخلص آدرمي إلى أن ما يحصل هو «أزمة وطن لا أزمة قبائل». وحمل على عيسى عبد الحميد (رئيس جبهة تحرير التبو) المقيم خارج ليبيا، والذي «لا يملك رؤيا». وأعرب آدرمي عن اعتقاده بأن «هناك فسحة أمل لأن يسوّي الليبيون مشاكلهم بالحوار في ما بينهم من دون الاستقواء بالخارج» . في الوقت ذاته، ما زال الغموض يشوب الوضع في مدينة سبها على رغم البيانات الرسمية التي تعلن بين الفينة والأخرى أنه تحت سيطرة الحكومة، ليتبدد ذلك بأنباء عن اندلاع اشتباكات بعد تعرض المدينة لإطلاق نار كثيف وهجمات من خلايا نائمة لأنصار القذافي، تثير حماستها قنوات فضائية يديرها عناصر من النظام السابق و «جيش القذافي الإلكتروني»، ما يدفعها إلى محاولة الانقضاض لتقويض هيبة الدولة في سبها. ويستغل أنصار القذافي نزاعات مسلحة بين قبيلة أولاد سليمان (العربية) وقبيلة التبو المدعومة بعناصر من المعارضة التشادية لنظام الرئيس إدريس ديبي. وقال ل «الحياة» سليمان خليفة أحد القيادات في سبها، إن «تقاعس المؤتمر الوطني العام والحكومة، وتباطؤ جيش، في التحرك السريع لمحاسبة الخارجين عن القانون، والاستهانة بسلطة الدولة، شجع عدداً من أنصار القذافي على التحرك العلني وسط المدينة ورفع أعلامهم الخضراء وصور القذافي بعد استيلائهم على قاعدة تمنهنت (الجوية) وبوابة قويرة المال التي تبعد نحو 25 كيلومتراً شمال المدينة». ويستمر الكر والفر بين ثوار المدينة وبين أنصار القذافي، من جهة، وبين قبيلتي التبو وأولاد سليمان، من جهة أخرى، فيما يقف الطوارق على الحياد بعدما حاولوا التدخل للتهدئة، لكن جهدهم الذي أثمر مصالحة بين التبو وأولاد سليمان قبل عدة أسابيع، ما لبث أن تبدد، نظراً إلى تأخر تفعيل عمل سلاح الجو في مراقبة سماء الجنوب. وقالت ل «الحياة» مريم أمغار من جمعية «أجزر» الطوارقية الخيرية إن «تدفق التبو التشاديين بأعداد كبيرة، جعل العائلات الليبية العريقة في سبها أقلية، وأفسد المصالحة التي يمكن استئنافها بوقف لإطلاق النار وإعلان هدنة بين طرفي النزاع». أما الأوضاع في منطقة مرزق (غرب سبها)، التي شهدت قبل بضعة أشهر سيطرة بعض الطوارق على حقل الشرارة النفطي على خلفية مطالبات بوظائف ضمن الحقل وضمن حرس الحدود والمنشآت النفطية، فإنها تبدو هادئة وهي تحت سيطرة الأهالي والدولة بعد فك الحصار عن حقل الشرارة النفطي، وعودته إلى إنتاج طاقته اليومية التي تفوق 300 ألف برميل، كما أعلنت مصادر المؤسسة الوطنية للنفط في الأسبوعين الماضيين. وأكد أشرف بلخيرات أحد سكان مدينة مرزق في اتصال هاتفي مع «الحياة» أنه «لا وجود لأنصار القذافي في المنطقة، وأن الحدود الجنوبية المتاخمة لمدينة مرزق وحوضها النفطي مؤمنة» . وتبدو أزمة الجنوب الليبي انعكاس واضح لتأخر حكومة علي زيدان الموقتة في إعادة بناء جيش ليبي احترافي ليتمكن من ضبط الحدود وحمايتها، وتأسيس جهاز شرطة قادراً على بسط الأمن وردع المتربصين من أنصار القذافي. ويحمل مراقبون «الإخوان المسلمين» وحليفتهم «كتلة الوفا» داخل المؤتمر الوطني مسؤولية وضع عراقيل في طريق الحكومة، لتواجه مشكلة تلد أخرى، بما في ذلك محاولات سحب الثقة من رئيس الحكومة علي زيدان الذي أشار إلى دور «الإخوان» هذا، في تصريحات الأسبوع الماضي.