لما كانت القاهرة هي المكان/ الواقع الذي أعيش فيه وأهرب منه، فقد لزم أن انتبه إلى حاجتي الملحة إلى المكان/ الخيال الملائم لأحلامي، فكانت بيروت، ولما كان الشعر الرومانسي وبعده الشعر الواقعي هو الشعر الشائع أيام مراهقتي وشبابي، لما كان هذا الشعر يكاد يحيطني من كل جانب، ويكاد يطفو فوق سطح اللغة العربية في كل مكان، مصر والعراق والشام. لزم أن انتبه إلى حاجتي الملحة إلى شعر آخر يحتفل باللغة كإنشاء وليس كتعبير، ولم أجد طموحي إلا عند الرمزيين اللبنانيين، يوسف غصوب وصلاح لبكي وغيرهما. غير أني تجاوزتهم بسرعة إلى سعيد عقل وأقمت في دواوينه ونثره، أقمت فيها حتى ذابت حنجرتي، ولما كانت أم كلثوم قد استبدت وأغلقت في وجهي أبواب سمائي المشتهاة، سماء الحنين الخاص، فقد لزم أن أذهب إلى معبد فيروز التي وجدت ميشال طراد وسعيد عقل يسعيان بها إلى القمر، ويجلسانني تحت صوتها لأصبح العاشق المحموم، العاشق الذي لا تعرفه. ولما كان أدونيس قد بدأ مراودتي حتى أغواني، وبعده حاول نزار قباني لكنني أفلتُّ من إغوائه، فقد احترزت واكتشفت أن حنجرة الشاعرين ظلت مسكونة لفترة بصوت سعيد عقل، ذات مرة قال لي عباس بيضون إن لبنانية سعيد عقل أوسع أفقاً من لبنانية يوسف الخال، السوري بداية، وصدقت بيضون، واكتشفت أنني أملأ قلبي بصفاء لبنانية سعيد، حتى أنني أصبحت أستطيع أن أزعم أن لغة سعيد عقل في شعره ونثره ليست هواءً مستعملاً، ليست ثياباً مستعملة، ليست حتى لغة مغسولة، إنها اللغة الأولى، كأنه ذهب بالشعر إلى ضفته الأخرى، في عام واحد فقدنا الشاعرين اللذين ظلا يحرسان اللغة والخيال والرؤيا، كل بطريقته، أنسي الحاج وسعيد عقل، في عام واحد أصبحت يتيماً مرتين.