في مقابلة تلفزيونية أخيرة، وكجزء من الحملة الإعلانية القوية التي رافقت إطلاق برنامج «يوتوبيا» التلفزيوني، كشف صاحب شركة «أنديمول» للإنتاج التلفزيوني، الهولندي جون دي مول، إن عدداً قليلاً فقط من الدول، لم تُبد اهتمامها الأولي ببرنامج شركته الجديد، وإن هناك عشرات المحطات التلفزيونية حول العالم تنتظر ردود فعل الجمهور الهولندي، حتى تبدأ محادثات إنتاج نسخ محلية من البرنامج. دي مول، المُتَزن والقليل الكلام بالعادة، عاد واسترسل بقوله إن الاهتمام الدولي هذا يُمكن أن يتلاشى بسرعة كبيرة إذا فشل البرنامج الجديد في جذب اهتمام الجمهور الهولندي. الانطباعات الأولى عن البرنامج الجديد (بدأ عرضه في الأسبوع الأول من هذه السنة على قناة «أس بي أس» التجارية الهولندية، على أمل أن يستمر لعام كامل)، تشير الى نجاح شعبي جيد، فأكثر من مليون ونصف مليون شاهدوا الحلقة الأولى ( رقم يُعَّد ضخماً بالنسبة الى البلد الأوروبي الصغير بمساحته وعدد سكانه)، كما إن البرنامج أطلق نقاشات واسعة على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، والتي تقترب من تلك التي اطلقها برنامج «الأخ الأكبر» قبل حوالى 12 عاماً، والذي بدأ رحلته حول العالم من هولندا أيضاً، وبتوقيع شركة «انديمول» ذاتها، التي تعد واحدة من أبرز شركات الإنتاج التلفزيوني في العالم، وتقف خلف برامج حققت شعبية كبيرة (آخرها كان برنامج اكتشاف المواهب الغنائية «The voice»). لا يختلف برنامج «يوتوبيا» كثيراً عن «الأخ الأكبر»، فهما يقدمان التوليفة ذاتها: مشتركون تراقبهم الكاميرات التلفزيونية على مدار الساعة. ولكن بدلاً من أن يجلس مشتركو «الأخ الأكبر» من دون عمل، ويقضون أيامهم بالنميمة وقتل الوقت أمام الكاميرات، يُنتظر من مشتركي «يوتوبيا» إنشاء المجتمع «المثالي». ولكن أي مجتمع يقصده البرنامج؟ هو، وكما بدا من أسبوع البرنامج الأول، مُجتمع مُفصل بالإجمال على مقاسات التلفزيون التجاري، فالمشتركون ال 15، والذين سيتركون في مكان بدائيّ وسط الغابات، ستحاصرهم شروط التلفزيون، وسيمنحون مبلغ 10 آلاف يورو، ليصرفوها في غذائهم وملبسهم طوال العام الذي يقضونه في «اليوتوبيا» التلفزيونية. اختار البرنامج 15 مشتركاً، من بين آلاف الطلبات التي وصلته. الاختيارات تَعكس أطياف المجتمع الهولندي (بينهم «حكيم»، شاب هولندي من أصول مغربية)، كما توفر الاختيارات تنوعاً مناسباً من جهة الخلفيات الاجتماعية والمهنية. من المشتركين، شاب اختار العيش منذ سنوات في الشوارع. وهو سيطلب من زملائه في أول حلقة، بأن يجتهدوا جميعاً لإنشاء «اليوتوبيا» المفقودة من حياتنا اليومية. لكنّ تفاصيل هذه «الحياة اليومية» واشتراطاتها ستتسلل الى «يوتوبيا» التلفزيون سريعاً، ليبدو المجتمع داخل أسوار البرنامج، غير مختلف عن ذلك خارجه، بل أكثر سوءاً. ليس معروفاً إن كان «يوتوبيا» سيستمر لعام كامل. الشيء المؤكد إن التجربة التلفزيونية لن تُثمِر اكتشافات مُهمة في «النفس البشرية»، وكما تعدنا هذه البرامج دائماً، وستنتهي، مثل مثيلاتها من جيل «الأخ الأكبر»، بأن تتحول الى سيرك تلفزيوني عام، تُحَرك خيوطه بالخفاء، إدارات هذه البرامج، التي تدفع مشتركيها للتصرف على هذا النحو او ذاك، من أجل إثارة تلفزيونية مُفتعلة وعابرة. كما أن هذا النوع من البرامج، لن يستطيع أبداً، بسبب قوانين تلفزيونية وحضارية، أن يدفع او يترك مشتركيه ليمضوا بحرية الى تخوم تجارب إنسانية صادقة، والمطلوبة او المنتظرة من برامج تلفزيونية مثل «يوتوبيا»، الذي وعد مشاهديه بمجتمع مثاليَ، لكنه عاد وقدم المجتمع المشوّه المعروف، الذي يُولد من تزواج حُب الشهرة بين مشتركين وطَمَع محطات تلفزيونية تجارية بالنجاح العابر.