أمر محرج اتخاذ موقف حاسم من القرار الأميركي تسليح المعارضة السورية، لأنه من جانب، عنوان لحرب داخلية مديدة تغذي منطق العنف وجحيم الفتك والتدمير، ولأنه من جانب آخر أشبه برد «طبيعي» على عنف مفرط ومنفلت لم يتخلّ عنه النظام لحظة واحدة، متوهماً القدرة على سحق الاحتجاجات ووأد تطلعات الناس نحو الكرامة والحرية. ولا يخفف الحرج والتحسب الادعاء بأن استجرار السلاح غرضه تكتيكي لتعديل توازنات القوى من أجل إجبار النظام وحلفائه على التسليم بالمعالجة السياسية وفتح باب المرحلة الانتقالية العتيدة، بعد أن منحت «معركة القصير» خيارهم الحربي، شحنة جديدة من الثقة. وأمر محرج الصمت عن الدعوة إلى الجهاد في سورية التي أطلقها علماء مسلمون من القاهرة لنصرة إخوتهم في الدين هناك، كونها فاتحة لدفع الصراع السياسي نحو أبعاد طائفية بغيضة، تشوّه معنى الثورة السورية وتطيح آمال الناس في التغيير الديموقراطي، حتى وإن جاءت كرد فعل على التوغل المذهبي المعلن لحلفاء النظام السوري في الصراع الدائر. وأيضاً يبدو محرجاً التناول الموضوعي لما يجري من تطورات في البلدان المجاورة نتيجة تداعيات الأحداث السورية. فمثلاً، ومع حفظ الفوارق بين سورية وتركيا لجهة مناخ الحريات السياسية والإعلامية ومستوى التنمية وتلبية حاجات الناس الاجتماعية والاقتصادية، ومع الاعتراف بالدعم المتنوع الذي قدمته حكومة أردوغان للحراك الشعبي السوري، لا يقوى بعضهم على القول أن خطاب أردوغان في التعامل مع تظاهرات ساحة «تقسيم» يشابه خطاب النظام السوري في بداية الثورة... بدءاً باتهام المتظاهرين بالشغب والغوغاء، وبأنهم حفنة من المتآمرين تديرهم اصابع اجنبية، إلى القمع والتهديد والوعيد بإنزال الجيش لسحق الحشود. ولا يخفف هذا الحرج إحساس السوريين بأن هذا الجار الأقرب الى همومهم ومشكلاتهم، خذلهم وخيّب أملهم بدعم نوعي وعاجل، واكتفى، بعد تصريحات نارية، بتوفير مخيمات موقتة لإيواء اللاجئين ومنح المعارضة السورية فسحة من النشاط السياسي والإعلامي على الأراضي التركية! «البادئ أظلم»، تسمع هذه العبارة من بعضهم لتسويغ أعمال القتل المذهبي التي تجري في بعض قرى لبنان وفي مدن عراقية حين تبدو كرد فعل على المشاركة المتنوعة ل «حزب الله» وميليشيات عراقية في القتال إلى جانب النظام السوري. ولكن، ما إن تدان هذه الأعمال، وهي مدانة، حتى تنهال الاعتراضات وتبدأ رحلة استذكار الحكايات عما جرى في القصير، عن مجازر ارتُكِبت وجرحى قتلوا، عن موقف حكومة المالكي من اللاجئين السوريين وعن حصار قواته وفتكها بجماعات من الثوار في غير منفذ حدودي... كأن الجميع بات يرغب في مزيد من الشد على الوتر الطائفي، وكأنهم عن وعي أو جهل يسهّلون لمن يريد نقل الصراع إلى الحقل المذهبي أن ينجح أو لمن يريد مدّه الى بلدان الجوار أن يقطف الثمار. ولأصحاب الفخر الوطني والاعتداد بالدولة المستقلة حرجهم الخاص، فكيف يبررون مناورات ما يسمى «الأسد المتأهب» في الأردن، والقرار الغربي بالحفاظ على الطائرات الحربية المشاركة وبطاريات باتريوت هناك، تحسباً لأيٍ من تداعيات الصراع السوري التي تهدد ذاك البلد، أو حين يسمعون موقفاً محبذاً أو متشفياً بعد الغارات الاسرائيلية على سورية لأنها حطمت بعض القدرات العسكرية التي توجه إلى صدور الناس، وهم العارفون بأنها تدمر ركائز تم بناؤها من عرق الناس ودمهم وعلى حساب تنمية مجتمعهم. وأخيراً هو أمر محرج أن تكرر انتقاداتك للمعارضة السورية في هذه اللحظة الحساسة، وأن تشير الى مساوئ استمرار خلافاتها وتشتتها والأمراض الذاتية التي لا تزال تفتك بها من حضور الحسابات الأنانية والمصالح الضيقة، ومن حضور فعاليات تحاول ركوب الموجة وتوظيف أشد العبارات المتطرفة والاتهامات كي تفرض نفسها في المشهد السياسي. ومن حسن الحظ أن تسمع عبارة «لا نريد استبدال استبداد باستبداد آخر»، وإن مشفوعة ببعض الحرج والتردد، لكنها باتت تتكرر مع تكرار تجاوزات تقوم بها بعض الجماعات المعارضة المسلحة وانفضاح اهتمامها بغنائم الحرب وبأجندتها الخاصة على حساب المصلحة الوطنية، وتالياً مع تكرار محاولات بعض المتطرفين فرض سيطرتهم في بعض الأماكن وإجبار الناس على العيش وفق آرائهم ومواقفهم المتعصبة، أو التعاطي مع الآخر المختلف من موقع الثأر والتشفي خارج حكم القانون والمؤسسات. صحيح أن النظام وحلفاءه فقدوا كل قيمة أخلاقية عندما سوّغوا كل انواع العنف والفتك، وجعلوا الصراع صراع وجود تحت شعار «إما نحن وإما هم»، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة معارضين وصلوا تدريجاً إلى الموقع ذاته وبدأوا، بالاستناد إلى وحشية الآخر، تسويغ تطرفهم وأفعال موازية لا تقيم للإنسان وزناً، ولما يخلّفه العنف من شدة ومعاناة لفئات شعبية تتضاعف كل يوم. التوغل السلطوي المريع في العنف يضيّق هامش القراءة الموضوعية للأحداث، ويسّهل اعتماد التبسيط في فهم دعم الثورة بالانحياز المطلق اليها مهما كانت سلبياتها وأخطاؤها، وليس إلى الحقائق أياً تكن أخطارها. ويسهّل أيضاً الترويج للفكرة القائلة بتأجيل كل نقد قبل إسقاط النظام، من دون التحسب لقوة الاعلام في عالم القرية الصغيرة، والتقدير لأخطار التزلف والمداهنة، ولمساوئ تأجيل معالجة السلوك الضار قبل أن يتفاقم ويترك آثاراً أشد ضرراً على مسار الثورة ومستقبلها. ربما كان صحيحاً أن الثورات لا تملك عقلاً موضوعياً وروحاً شفافة، ولا بد للشر وقصر النظر من أن يترعرعا في صفوفها. ولكن يبدو أشبه بالخيانة للحراك الشعبي وشعاراته وتضحياته، التغاضي عن أخطاء قواه ومثالبها، فليس من توقيت غير مناسب لتناول أحوال الثورة السورية نقدياً، بل على العكس، من واجب الجميع، قبل فوات الأوان، تقديم النقد والنصح لها، لتصويب مسارها وتجاوز ما تعانيه من مثالب وعثرات.