تصدّر الحادث المروري المروّع الصحف ونشرات الأخبار وأحاديث الناس... ليس لأنّه حادث ضخم، أو لأن شاحنة عملاقة طحنت سيارة «تاكسي» على الطريق البحرية السريعة، أو لأنّ المرأة المقتولة في الحادث وُجدت مشطورةً من وسطها، بل لأنّ المحاولات المضنية لم تنجح في العثور على النصف الثاني لتلك المرأة! حين رأيتُ صورة ما تبقى من الضحية في الصحيفة، شعرت بأنّ حريق غابة شبّ في عينيّ. دخان كثيف خرج منهما، وطيور وسناجب فرّت مذعورة. أعرفُها، رغم أنّي لم أحدّق في وجهها يوماً. الآن فقط أراه بوضوح. كانت تأتي أحياناً إلى الرصيف البحري، قبل الغروب بدقائق، تجلس على المقعد ذاته، بينما أنا، أمامها بخطوات قليلة، أتعلّم حرفةً لا تقلّ عن الصيد تطلّباً للصبر والأناة. كانت تأتي فجأة. ألتفتُ فأجدها جالسة جلسةً عمرُها ساعات. ولكنها لا تغادر كما أتت، بل تقف وتمشي ببطء نحوي، وكأنّها تريد أن ترى ما التقطته كاميرتي. ثم تعود إلى المقعد، وتجلس متأهبة بضع دقائق، تدوّن شيئاً في دفتر صغير ثم تضعه في حقيبتها. تقف دقيقة أخيرة ثم تغادر. بعكسها، كنت أواظب على الحضور. أجلس غروب معظم أيام الأسبوع، محاولاً التقاط مشهد واحد، لتجميده في كادر، ولإثبات أنني أستطيع القبض على لحظة هربت مني ذات مغيب. خلال جلساتي عند الرصيف البحري، كنت أضبط آلة التصوير، وانتظر سرب الطيور الذي غالباً ما يخطئ التوقيت، فيأتي حين انبلاج اللون البنفسجي من البرتقالي، أو بعده بدرجات بعيدة من الأزرق الكحلي، وأحياناً كثيرة لا يأتي. لذا كنت أتأمّل المارة حيناً، وأسرح في الأمواج أحياناً، أو أقرأ في كتابٍ تمنّيت إهداءه لشابة صهباء، مدّت يدها نحو سرب طيور عابر ذات غروب، وأودعتني أمنيتها الطفولية: «أتمنّى القبض بيدي على هذه اللحظة». امرأة الحادث لم تكن صهباء، ولا تشبهها في شيء. ما جعلني أتذكّر زائرة الرصيف تلك، من بين مئات العابرين، هو أنّ حضورها المتباعد توافق مع مرور سرب الطيور في اللحظة الشفقية المرجوّة. التقطتُ كثيراً من الصور للمشهد الذي أردتُه. ولكن، كوني هاوياً متوسّط الموهبة والحرفة، آلت تلك الصور إلى قمامة غرفة التحميض. ما أعرفه جيداً ولا تشوبه ارتجافة يد، هو أنها كانت هناك على المقعد خلفي، ترصد المشهد نفسه. ذلك اليوم، حين سالت الألوان التي أترصّدها من ريشة مجهولة فوق الأفق، وبينما كاميرتي مستنفرة، حدثت المعجزة... مرّت الطيور واخترقت الألوان الذائبة، فالتقطتُ بيد منفعلة صوراً لاهثة متتابعة. كثير من الصور، بعدد الثواني التي استغرقها عبور السرب المتهادي بين البرتقالي والذهبي والأصفر. غابت الطيور، فالتفتُّ خلفي أريد أن أشكر المرأة بابتسامة خفرة، ولكنّها لم تكن هناك كما توقّعت... السرب ليس معلقاً بذيل ثوبها كما توهّمتُ. حزنتُ للمقعد الوحيد. كان الناس يمرّون به مسرعين. ثم راكضين. احتجتُ إلى ثوانٍ كي أتذكر أني سمعت، بينما كنت ألتقط الصور المتتابعة للسرب، صوت ارتطام قوي، تبعه صوت تحطم زجاج. هرول كثيرون لرؤية الحادث، إلا أني لم أشعر بفضول للحاق بهم. كنت متحمساً لتحميض صوري في أسرع وقت ممكن. كان فظيعاً تمديد نصف الجثة تلك فوق الرصيف، ورؤية الأحلام السعيدة التي ارتسمت على عنقٍ جميل ووجه متبرّج برقّة. ركَنَ العقلاءُ إلى أنّ نصف المرأة المفقود عُجن بحديد الشاحنة وسيارة الأجرة. لم ينج شيء من حقيبتها أيضاً. بقايا كحل ومرايا وهاتف محمول... لم ينجُ سوى دفترها الصغير الذي - لسبب لا أفهمه - احتفظتُ به، حين وجدتُه تحت المقعد ذات مساء. لم أُطلع أحداً على جملة خطّتها المرأة في دفترها: «ذات مغيب، وقعتُ في الحبّ فكسرتُ قامتي، وإلى اليوم أنا نصفان، واحد يفرّ والثاني يبحث عنه... ويحدث أن أملّ من آلام الفرار والبحث، فأقصد البحر بأحد نصفيّ توقاً لنهاية منصفة».