في منتصف 2011، عمّت التظاهرات الثوريّة الكبرى ساحات عددٍ من المدن السوريّة، وتناقلتها قنوات البثّ المباشر ونشرات الأخبار. وفي الوقت عينه، غطّت قنوات النظام احتفالاتٍ «مليونية» في ساحاتٍ أخرى، أحياها مغنّون كثرٌ، على خطٍ موازٍ للتصريحات الإعلامية والسياسية، والفعل الأمنيّ. فكان للأغنية الأسدية دورٌ نشطٌ يواكب البروباغاندا النظامية، ويعطي انطباعاتٍ لا تقلّ فداحةً عن كل ما يحصل، مما يستلزم فهم شيءٍ من جذورها. فقد ساد في سورية البشّارية نمطان غنائيّان «جماهيريّان»، بعدما شاركت الطبقة الاقتصادية الجديدة، المكوّنة من أبناء الضباط والمسؤولين من الرعيل الحافظي الأول، بدعمهما على أغلفة المطبوعات التي يملكونها، والمهرجانات التي يرعونها، وعلى أثير إذاعاتهم المحليّة، مترافقةً مع استرخاءٍ ماديٍّ وإحساسٍ باستقرار السلطة لدى هذه النخب، فشاعت موضة تسويق «الأغنية السورية الحديثة». يمثل النمط الأول «الأغنية الشبابية» الدارجة عربياً بلغتها العاطفية المكرّرة، وهي خارج إطار هذا الحديث، ويتشكل النمط الثاني من أغاني الكازينوات بما فيها من محتوىً غنائيٍّ ريفيٍّ لاقت صداها في وسائل المواصلات وعلى البسطات ومهاجع العساكر، تسمّى تارةً اللون الجبليّ، أو الأغنية الشعبية تارةً أخرى. وتتكون أدواتها من إيقاعاتٍ وجملٍ موسيقيةٍ راقصة، ولغةٍ لا تخلو من سوقيّةٍ في أحيانٍ كثيرة. من هذين الشكلين خرجت أغاني الساحات ومسيرات التأييد للرئيس في البداية، وركّزت في تلك الفترة على حبّ الوطن وقائده، لتسجل عشرات الأغاني في هذا الصدد، على وقع دبكة الشعب المقاوم وأصوات علي الديك وناصيف زيتون ونانسي زعبلاوي وآخرين تغزلوا بصمود الرئيس: «... رغم الهجمة والحصار/ القومية والعروبة/ حروفا بدمك مكتوبة/ فوق جبينك يا بشار»، على ما تفوّهت رويدا عطية يومها. فاتّسم معظم مغنّي تلك الفترة بكونهم ليسوا فقط مؤيّدين جدّيين للنظام، وأدواتٍ تسويقية له، بل إن نجومهم سطعت أساساً في عهده. لكن، وكما يهذب المال لاعبي كرة القدم الفقراء، فعلت الشهرة مع نجومنا الجدد، من دون أن تنزع عنهم أصولهم وتطورهم. فصورة الوطن والمؤامرة صافية في أذهانهم، كما الخوف على المجد الذي حظوا به من الزوال، فهو جزءٌ أساسيٌّ من الهوية السورية الجديدة. لكن، بعد أشهرٍ قليلةٍ، دخل عنصرٌ جديدٌ على هذه الأغاني، مع ازدياد التبجّح الرسميّ بالحسم العسكريّ وسحق «الإرهابيين»، وتزامناً مع وصول تأثيرات الثورة إلى قلب المدن الهانئة بالأمن والأمان الأسديّين، فباشر المغنون التغنّي بقوّة الجيش الذي حيّاه وفيق حبيب متغزّلاً بخطواته التي تهزّ أنحاء الأرض... لتتوالى بذلك الأغاني العسكرية مستحوذةً على ساعات عرضٍ في فضائيات النظام، وملبسةً البزّات العسكرية المكويّة لمغنّيها الممكيجين، ليكملوا لوحة الاحتقار الموجّهة نحو الطرف الآخر من الشعب، والذي لا يستحقّ سوى الدعس، بالتزامن مع بدء حملة تقديسٍ مرضيةٍ للبسطار العسكري، وصلت إلى درجة إقامة نصبٍ تذكاري له في بعض الشوارع العامة، فغنّى حسين الديك: «... جيشك بشار/ حامي هالدار/ ما بيرضى الذلة لا ولله ولا يهاب الغير...». وبعيداً من هدف رفع المعنويات والتجييش الشعبيّ المؤيّد الذي تلعبه هذه الأغاني، توحي الأغنية أية أغنية عموماً بشيءٍ من ثبات أو تخليد الموضوع الذي تتناوله، أو المحافظة على شعور الاستقرار وإدامته، وهذا ما يحتاجه النظام لتوزيعه على العقلية التشبيحية، تحققه أدوات اللغة بتفاهتها، وتربطه بالعاطفة والحماسة، على ما اعتاد المتفائلون بالخير من سمّيعتها أن يجترّوا. لكن بالتأكيد لم تمنع آداب التعايش من إظهار الشخصية الحقيقية للمغنين ومن خلفهم من جمهورٍ ومؤسسات، فما يبدأ بتقديس عيون سورية الأسد وجيشها الباسل يصعب معرفة حدود نهايته. وبعد مجزرة الكيماوي الشهيرة، لم يخفِ شارع النظام سعادته بما جرى، والذي اعتبره عقاباً عادلاً نزل بحق الرعاع المتمردين، ويحقق أقصى شروط استعراض القوة من طريق الإفناء. ولم يكن هذا إلا حصيلةً منطقيةً لتكدّس الضيق وتخمّر الفاشية. وهنا لم يتأخر وفيق حبيب في خلط الكيماوي مع عواطفه الجيّاشة، طالباً من حبيبه المزعوم أن يرشّ عليه الكيماوي بدلاً من فراقه، في أغنيةٍ ستضرب السوق، وتمزج الإبادة الجماعية بالحب، ليستهلكها جمهوره كظاهرةٍ عاديةٍ ليس فيها ما يثير الاستغراب، ولترقص على لحنها «حاضنة النظام الاجتماعية» في ما تبقى من الأعراس والحفلات: «إجرحلي قلبي ولا تداوي/ ورشّ عليّ الكيماوي». فلا ضير في أن يقفز الجميع فرحاً على لحن جثث الأعداء الجميل. ولا بأس من تشييد نصبٍ تذكاريٍّ للجريمة يخلّد قوتنا في بطش ذواتنا السكرى بالموت أو منتفعاته. وليُشطب قلق نسيان المذبحة من الذاكرة بعد صنع تمثالٍ لها يكوّنه الإيقاع ورثاثة المغنى، ويدور الجميع حوله بخدر. المسألة تتعدّى الفن، إذا كان هذا ما يسمّونه... بل هي عن كل شيء. وسيتفكك الكيماويّ السوريّ في النهاية، فماذا سيستخدم الحبيب ضد حبيبه من أسلحة؟ * كاتب سوري.