عدت إلى المحلة الكبرى في الإجازة الصيفية للسنة الأولى، وسرعان ما وصلتني نتيجة السنة كلها، وعرفت أني حصلت على تقدير جيد مرتفع، وأنه كان بيني ودرجة التفوق جيد جداً درجات معدودة، لكن حال دونها الدرجات القليلة التي حصلت عليها في «النحو» والتي أوصلتني إلى درجة النجاح بالكاد ودرست درجاتي في بقية المواد فوجدت أنها لم تكن كما أرجو، وكان ذلك بسبب عدم استقراري وانتقالي بين أكثر من مسكن، واضطراب السنة الأولى التي لم تخل من غواية معرفة خفايا القاهرة، لكن كل هذا يمكن علاجه بالاستقرار في مسكن واحد والتركيز في المذاكرة، أما العقبة الأساسية، فكانت «النحو» الذي كان مشكلتي الأساسية التي لا بد من أن أواجهها في حسم، كي أحقق ما أحلم به من تفوق، على الأقل لأخفف الأعباء المالية عن أبي وأمي، وقررت معالجة الأمر بالاستعانة بصديق المحلة الشيخ رمضان جميل الذي عرفته مريداً من مريدى العم كامل وصبيانه الذين اتبعوا طريقه، فأصبحوا أصدقاءنا لتقارب السن وكان السبيل أن أستفز الشيخ رمضان الذي كان في عامه الأخير من المعهد الديني الثانوي، ونجحت في استفزازه وادعاء أنني أعرف في النحو أكثر منه، وكان ذلك أمام أصدقاء القراءة من أبناء المحلة، وقلت للشيخ رمضان تعالى نختبر معرفتك ومعرفتي في النحو أمام هؤلاء الأصدقاء فقال كيف؟ قلت نقرأ كل يوم باباً من أبواب النحو من بدايته إلى نهايته، ونطرح على أنفسنا أسئلة فيه في اليوم الثاني، والفائز هو الذي يثبت جدارته في الإجابة عن كل الأسئلة أو معظمها على الأقل ووقع الشيخ رمضان، رحمه الله، في الفخ، فقد كان واثقاً من النتيجة، فهو يدرس أبواب النحو، سنوياً، منذ المرحلة الابتدائية في المعهد الديني في المحلة الكبرى واختار سلاح التحدي، وهو كتاب شرح ابن هشام على ألفية ابن مالك «أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك» وبدأنا وكان حتماً علي أن أقرأ كل يوم باباً من أبواب «أوضح المسالك» وأقضي الليل كله في فهم فروعه وتفاصيله، ولا أنسى حفظه ألفية ابن مالك، خصوصاً الأبيات التي يدور حول موضوعها الباب، ابتداء من: «قال أحمد هو ابن مالك/ أحمد الله خير مالك». إلى آخر أبيات الألفية والأبواب. وكنا نلتقي في الساعة السادسة في تجمعنا في المقهى المجاور لعربة كتب طلعت قنديل، صبي عم كامل الذي استقل عنه، وسرعان ما أصبحت العربة دكاناً خشبياً، ملحقاً بإحدى البنايات القديمة التي تطل على شارع العباسي. ومضت أيام المنافسة التي كنت أستعد لها طوال الليل وفي الصباح، كما لو أني أستعد لامتحان يحسم حياتي في اليوم التالي، وما أكثر ما تغلبت على الشيخ رمضان الذي كان يقابل الهزيمة بابتسامة عريضة، تعقبها ضحكة محبة وكان ذلك طبيعياً لأنه كان يعتمد على ذاكرته ومخزونه القديم، ولم يكن في حاجة إلى الاستقتال في الاستعداد، وقد كان واثقاً من هزيمة هذا الصديق المغرم مثله بنجيب محفوظ ويوسف إدريس، ولا يعرف شيئاً عن النحو القديم، فقد كانت هذه ميزة طلاب الأزهر علينا نحن أبناء المدارس المدنية وانتهت أيام المناظرة والمنافسة التي مررنا فيها على معظم، إن لم يكن كل، أبواب النحو في كتاب ابن هشام وأصبحت مستعداً لمنافسة زميلين معي في «الدفعة»، هما ثابت الخطيب، مد الله في عمره، فقد رأيته آخر مرة، مسؤولاً مهماً في وزارة التعليم في الإمارات، وحسني محمود الذي حصل على الدكتوراه في شعر المقاومة الفلسطيني، وعمل في جامعة اليرموك إلى أن توفاه الله وكلاهما فلسطيني الأصل، تخرجا من معهد المعلمين، درساً فيه أبواب النحو التي قاما بتدريسها إلى أن حصلا على منحة للدراسة في قسم اللغة العربية في آداب القاهرة، فتفوقا منذ السنة الأولى، وحصلا على تقدير جيد جداً وبالطبع أثار تفوقهما رغبة المنافسة والتفوق عليهما، خصوصاً بعد أن حصلا على ما لم أحصل عليه في السنة الأولى. وعدنا إلى القسم مع بداية السنة الدراسية، وكانت الجامعة قد قامت بإلغاء نظام الفصلين وبدأت الدراسة بروح جديدة من التوثب والحماسة والعناد، وأخذت أعوّد نفسي على عدم ترك مذاكرة اليوم إلى الغد، والتهمت كتابي شوقي ضيف عن التجديد في الشعر الأموي والعصر الإسلامي، وكنت أذهب إلى القاعة الشرقية، يومياً، بعد المحاضرات، وفى الفراغ الذي بينها، وكانت هذه القاعة التي تطل على كافتيريا كلية الآداب في ذلك الوقت عامرة بكتب التراث في التراجم ومصادر الأدب القديم والموسوعات العربية القديمة والحديثة، فضلاً عن كتب التاريخ وأجلس للاطلاع على مراجع الموضوعات التي درسناها، خصوصاً في الأدب والتاريخ، فضلاً عن علوم التفسير الحديث وفى هذه القاعة التهمت صفحات السيوطي «الإتقان في علوم القرآن» وكتاب الزركشي في الموضوع نفسه، فضلاً عن «الباعث الحثيث في علم الحديث» ولا أنسى مجلدات «الأغاني» التي كنت أستمتع بقراءتها، خصوصاً لما فيها، فضلاً عن المعلومات والأشعار، من حكايات ونوادر ووصلت الأغاني بدواوين العصر الإسلامي الذي يضم المخضرمين وشعراء فترة الخلفاء الراشدين إلى شعراء العصر الأموي هكذا قرأت ما عثرت عليه من شعر الحطيئة والراعي النميري وجرير والفرزدق والأخطل، وشغفت بشعر العذريين أمثال قيس بن زريح مجنون ليلى، وجميل بثينة، وغيرهما من الشعراء الذين جمع أشعارهم أستاذي حسين نصار، وأغواني شعر الأحوص بن محمد الأنصاري وعمر بن أبي ربيعة وأمثالهما وقد أخذت ذاكرتي في النشاط، وتزايدت قدرتها على حفظ الشعر وبالطبع، كنت أكتب في كشكول كل عام، أمام ما كنت أكتبه وراء الأساتذة من دروس، ما يكمل ما قالوه من معلومات ونصوص منقولة من مصادرها القديمة، فضلاً عن الأشعار التي كنت أنقلها عن الدواوين أو عن المختارات الشعرية القديمة، مثل الأصمعيات والمفضليات وحماسة أبي تمام وحماسة البحتري، فضلاً عن الحماسة البصرية، فإذا أكملت المادة المعرفية لكل درس، انتقلت إلى غيره في مجاله وهكذا إلى أن أعود إلى غرفتي لأعيد كتابة المحاضرة مع ما أفدته من المكتبة في كشكول خاص في كل علم، فتنقش المحاضرة بمراجعها في ذهني ولم أكن أطلع أحداً على هذه المحاضرات في كشاكيلها الخاصة، فقد كانت من صنعي وتعبي وظللت محافظاً على هذه العادة، إلى أن كسرتها في السنة الرابعة، فأعطيت كشكول النقد للفتاة التي اخترتها حبيبة وزوجة، فأعطتها لطيبتها لصديقتها الحميمة التي أعطتها، بدورها، لصديقة أخرى أعطت المحاضرات لزميلها الذي تحبه، وأخذها منه أحد زملائنا ونسخ منها نسخاً لمن يريد في أحد مكاتب الآلة الكاتبة، وباعها للراغبين الذين فاجأونى بعد الامتحان بها، ولم أملك شيئاً سوى الغيظ وتأنيب زميلتي التي أصبحت زوجتي على طيبة قلبها التي لم تفارقها إلى اليوم، بعد كل هذه السنوات العديدة التي عاركنا فيها الحياة وعاركتنا. وبالطبع لم أكن أخرج من القاعة الشرقية حتى بعد فراغي من استقصاء معلومات المحاضرات والمعارف الخاصة بها، فقد كانت شهوة المعرفة تغويني، فأنطلق إلى الكتب المتراصة على أرفف القاعة الطويلة، وأنتقي منها ما أعرف وما لا أعرف، وأهيم في صفحاتها بلا هدف محدد سوى فضول المعرفة وما أكثر ما عرفت بسبب هذه الشهوة التي أصبحت ملازمة لي طوال سنوات الجامعة، وما بعدها، وبالطبع لم أكن أنسى النحو، خصوصاً أن الكتاب المقرر كان هو «أوضح المسالك» الذي راجعته في المحلة الكبرى في المنافسة الصيفية مع الشيخ رمضان ومن الطرائف التي أذكرها، في هذا العام، أن شكري عياد كان يقوم بتدريس مادة البلاغة لنا، وكان من عادته، رحمه الله، أن يتمشى في المستطيل الذي يقع أمام المدرجات، ويلقى علينا الدرس في تؤدة، متوقفاً بعد الكلمات، باحثاً عن الكلمة المناسبة، وكانت هذه العادة تقطع تركيز الطلاب، خصوصاً حين كان يهمهم، ويهم بإلقاء كلمة ثم يتراجع عنها متصيداً من ذاكرته الكلمة الأكثر دقة ولذلك كان الطلاب الذين فقدوا التركيز لا يفهمون منه شيئاً أما أنا فكنت أكتب كل ما يقول، بلا ملل من توقفه بين كلمة وأخرى، فقد أحببته منذ أن قرأت مجموعته القصصية الأولى وزادني إعجاباً به أنني عندما كنت أذهب إلى المنزل، أو المكتبة، وأعاود قراءة محاضرته أجد كلاماً دقيقاً متصلاً، لا ينقطع تسلسله على الورق، وإن كان ينقطع كثيراً في الإملاء ولا أنسى محاضرة ألقاها علينا في المفاهيم الحديثة للتشبيه والاستعارة، بعد أن فرغنا من دراسة ما جاء عنهما في باب «البيان» من كتاب «الإيضاح في شرح المفتاح» للخطيب القزويني وقد ظللت أحتفظ بكشكول محاضرات شكري عياد في البلاغة لوقت طويل، معتزاً به، حتى بعد أن أصبحت ألقي محاضرات في المقرر نفسه، ولكن سرعان ما ضاع الكشكول مع ما ضاع من كتب وأوراق. وقد جعلتني محاضرات شكري عياد أبحث عن كتاب «المفتاح» للسكاكي اسم مشتق من صناعة «السَّكة» التي منها «سكّ العملة» وأقرأ ما كتبه أمين الخولي، أستاذ شكري عياد، عن البلاغة في المكتبة، خارج القاعة الشرقية التي كانت للمصادر الأساسية، ولكني وجدت كتباً قديمة أخرى، في القاعة الشرقية، تدور حول علوم البلاغة، أو تضم بعض أبوابها وكان ذلك في تجوالي الحر في القاعة التي لم أكن أفارقها إلا بعد أن يعضني الجوع، فأخرج من المكتبة إلى الكافتيريا، وأشتري «ساندويتش» خفيفاً، كي يهدأ جوعي نسبياً، ومعه كوب شاي في الغالب، وألتهم هذا الغذاء المتواضع على منضدة نائية، فقد كانت الكافتيريا مليئة بالطلاب والطالبات وقد استبدل الكثيرون الجلوس عليها بدخول المحاضرات، فضلاً عن امتلائها بطلاب الكليات الأخرى بحثاً عن الفتيات الجميلات، فقد كانت كلية الآداب مشهورة بين بقية الكليات بجمال طالباتها، خصوصاً في قسمي اللغة الإنكليزية والفرنسية، ولكي تجمع الكافتيريا المتناقضات كانت تضم طلاباً عرباً ينتمون إلى الأحزاب التقدمية، في مصر وخارجها، فضلاً عن رهبان العلم من أمثالي، فقد كتبت على كل كشاكيلي فقرة نقلتها من أحد كتب طه حسين تقول إن الطالب إذا لم ينغمس في مغامرات سياسية أو عاطفية، فيما أذكر، فإنه ينبغ في العلم، ولذلك كنت أجلس وحيداً على الكافتيريا، ولا أطيل البقاء بعد تصبيرة الغذاء، وأعود إلى محاضراتي أو إلى القاعة الشرقية التي أصبحت أحب الأماكن إلى قلبي وقد تعرفت على أمينها المرحوم محمد قنديل البقلي الذي كان عالماً محققاً، نشر عدداً من كتب التراث، مثل «الناشوش في حكم قراقوش» وفهارس شاملة جامعة لكتب أخرى وكان، رحمه الله، جهماً باستمرار، لكنه كان يخصني بالمودة، خصوصاً بعد آن رآني «زبوناً» دائماً للقاعة، وعاشقاً لكتبها، فلم يكن يبخل علي بما أريد أن أعرفه، ولا يتردد في أن يأخذني إلى الكتب التي تفيدني فيما أرغب في الاستزادة من معرفته وقد عرفت منه أن أستاذي عبدالعزيز الأهواني، ومعه عبدالقادر القط وغيرهما، رحم الله الجميع، عملوا في القاعة الشرقية بعد تخرجهم وتعيينهم معيدين في الجامعة.