أمام «مركز نعمة لغسيل الكلى» في شارع الهرم بمدينة الجيزة وقف رجل خمسيني يدعى محمد عثمان يصرخ طالباً العون بعدما أبلغه موظفون بتوقف خدمة غسيل الكلى المجانية التي كانت تقدم له منذ شهور في هذا المركز. وقال عثمان ل «الحياة»: «إن وزارة الصحة المصرية منحته خطاباً لهذا المركز كي تُجرى له عملية غسل كلى مرتين أسبوعياً على الأقل مجاناً». وأوضح أن الأطباء أبلغوه عبر الهاتف الأحد الماضي بأن آخر جلسة ستجرى له أمس بسبب تجميد أموال «الجمعية الطبية الإسلامية» التابع لها المركز، ضمن أكثر من 1000 جمعية خيرية أخرى صدر قرار من لجنة مشكّلة من وزارة العدل بتجميد أموالها بعد حكم قضائي بحظر نشاط جماعة «الإخوان المسلمين» وتجميد ممتلكاتها. وداخل المركز سادت الفوضى حتى بين أطبائه الذين لاحقهم المرضى للسؤال عن موعد استئناف الخدمة لكن من دون رد واضح، مكتفين بالطلب من المرضى ترك أرقام هواتفهم للاتصال بهم في حال استئناف النشاط. ولم يتسنَّ الوصول إلى حصر دقيق للمستفيدين من خدمات الجمعيات المجمدة أموالها، لكنهم قطعاً يُقدرون بمئات الآلاف من الفقراء على أقل تقدير. ونشطت جماعة «الإخوان» عبر عقود في مجال العمل الخيري، وسط اتهامات من معارضيها ومن السلطات باستغلال تلك الأنشطة في تجنيد أنصار جدد وتحقيق مكاسب انتخابية. ويعتمد آلاف الفقراء في محافظات عدة على خدمات وتبرعات تقدم لهم من تلك الجمعيات، ما أحدث ضجة فور إعلان تجميد أموال تلك الجمعيات، بخاصة الطبية منها، خصوصاً أن القرار شمل جمعيات كثيرة غير تابعة ل «الإخوان». ولجهاز الأمن الوطني (أمن الدولة سابقاً) التابع لوزارة الداخلية دور مهم في إشهار الجمعيات الأهلية، وأيضاً في قرار تجميد أموال بعضها، إذ يخضع عملها لرقابة صارمة من ضباط في الجهاز مسؤولين عن متابعة نشاط العمل الأهلي، كانت لهم الكلمة العليا في تحديد أسماء الجمعيات التي شملها القرار. وقال مسؤول في وزارة التضامن المعنية بإشهار الجمعيات الأهلية والخيرية إن مديرية التضامن في كل محافظة أرسلت إلى مكتب مباحث الأمن الوطني أسماء أعضاء مجالس إدارات الجمعيات المشهرة فيها، لتحديد ما إذا كان بينهم أعضاء في جماعة «الإخوان». وبدا ارتباك حكومي في التعامل مع قرار تجميد الأموال، خصوصاً بعدما اضطرت مستشفيات تُعالج فقراء إلى إيقاف خدماتها، فتقرر تشكيل لجان حكومية تُشرف على تلك الجمعيات لتسيير نشاطها. وقال مساعد وزير العدل رئيس لجنة التحفظ على أموال «الإخوان» القاضي عزت خميس ل «الحياة»: «إن وزارة التضامن هي المعنية بملف الجمعيات المجمدة الآن، بعدما انتهى عمل لجنة التحفظ». وأردف: «ستشكل لجان لإدارة تلك الجمعيات لاستمرار تلقي الخدمات ومن له شكوى سيتم النظر فيها». وأوضح أن «الجهات المعنية هي التي حددت أسماء تلك الجمعيات وليس اللجنة»، في إشارة على ما يبدو إلى الجهات الأمنية. لكن إدارة تلك الجمعيات ليست بالسهولة المتوقعة، إذ تتطلب وفق مسؤول مصرفي قراراً قضائياً من أجل صرف الشيكات التي توقعها اللجنة المفترض تعيينها. وقال مسؤول الإعلام في «الجمعية الطبية الإسلامية» التابع لها «مركز نعمة» رضا عبدالله ل «الحياة»: «إن أحداً من وزارة التضامن لم يتسلم بعد الجمعية بعد مُضي أسبوع على قرار تجميد الأموال». وأوضح أن «الجمعية يتبعها 30 مستشفى ومركزاً طبياً استفاد منها مليون و200 ألف مريض العام الماضي، وفق كشوف المستشفيات». ولفت إلى أن الجمعية المؤسسة منذ أكثر من 30 عاماً «تخضع لرقابة وزارة التضامن والجهاز المركزي للمحاسبات ولا تخلط السياسة بالعمل الخيري». لكن ثمة صلة بين الجمعية وجماعة «الإخوان»، فمدير مستشفاها المركزي هو القيادي في «الإخوان» محيي الدين الزايط، وفي مجلس إدارتها قادة معروفون من الجماعة. لكن عبدالله يقول: «إن الجميع يخلع رداء السياسة ما إن تطأ قدماه المستشفيات... نقدم خدماتنا من دون تمييز، ولا نروج لأحد». وتابع: «أن قرار تجميد الأموال غير إنساني بالمرة ويعطل الخدمة لمرضى فقراء. المخزون الطبي في المستشفيات بدأ ينفد، وفي بعضها نفد وتم وقف الخدمات، خصوصاً في مراكز غسيل الكلى. أبلغنا آباء بضرورة الحضور لاستلام أطفالهم الرضع بعد توقف حضّانات في مستشفيات عدة، منها التقوى في القاهرة والهدى في حلوان». وأكد أن «القائمين على إدارة المستشفيات يُجاهدون من أجل استمرار غرف الرعاية الفائقة. ننقل مخصصات من بعض الأقسام الطبية إلى أقسام أخرى فيها حالات حرجة لاستكمال علاجها، إلى حين السماح بصرف شيكات من البنوك حتى ولو عبر لجنة تشكلها وزارة التضامن... هناك ارتباك شديد في المستشفيات. لا نستطيع إخراج المرضى ولا علاجهم». وظهر أن الجمعيات التابعة لجماعة «الإخوان» استغلت الأزمة، وأجادت التعامل مع تبعاتها، فالجماعة المحترفة في التعامل مع الإعلام، خصوصاً الأجنبي، عكفت الجمعيات التابعة لها على إرسال تقارير وبيانات صحافية وحتى مواد مصورة عن معاناة الفقراء بعد قرار تجميد أموالها، على عكس جمعيات أخرى حارت في التعامل مع الموقف، بينها «دار لمسة أمل» لرعاية اليتيمات في حي حدائق الأهرام على أطراف القاهرة. ففي المبنى الفخم الذي أقامته الدار لرعاية اليتامى تجلس موظفة حسابات تُدعى هدى في غرفة مُجهزة بعناية والوجوم يسيطر على ملامحها بسبب عدم تمكنها من تدبير نفقات رواتب العمال والموظفين. وقالت الموظفة ل «الحياة»: «كان يُفترض إنهاء موازنة عام 2013 هذه الأيام، لكنني لم أتمكن من ذلك بسبب وجود نفقات لا أستطيع إدراجها، لأنها ببساطة لم تنفق بعد». البناية المكونة من خمسة أدوار أسفلها حديقة تضم ألعاباً للأطفال توحي بأن أصحابها أرادوا حياة كريمة للبنات اللائي تؤويهن الدار، فمدخلها مُرصع بالرخام وغرف الأطفال فيها مُجهزة على مستوى عال. وأعلاها توجد غرفتان صغيرتان اختارت صاحبة الدار وزوجها أن يعيشا فيهما بعدما حُرما نعمة الإنجاب. وقالت صاحبة الدار فتحية محمود ل «الحياة»: «إن الدار تضم 34 طفلة يتيمة، على رغم أنها تتسع لأكثر من 100، لافتة إلى أنها راعت أن تُقدم لهن أعلى مستوى من الخدمة. وأضافت: «كل أموالي وزوجي أودعناها البنك باسم البنات. لم نكن نتخيل هذا القرار... لا علاقة لنا ب «الإخوان». والآن نستدين من بعض المعارف من أجل توفير الطعام للبنات بعد أن نفد المخزون لدينا، ولتدبير وقود لحافلات نقلهن إلى المدرسة». وتوجهت محمود إلى المسؤولين في مكتب الشؤون الاجتماعية في حي المنيل، حيث مقر إشهار الدار، لطلب تشكيل لجنة في أسرع وقت للإشراف على الدار وصرف أموال من البنوك، لكنهم أفادوها بأن لا تعليمات حتى الآن. وزادت: «هذا الموقف هو الأصعب في حياتي. أصعب حتى من عدم إنجابي... نمنح أسراً فقيرة شهرياً رواتب زهيدة لم أتمكن من صرفها هذا الشهر». وأردفت وهي تغالب دموعها: «كل أموالنا في البنك لا تزيد على مليون جنيه نذرناها للخير، الآن أوقفوا بناء مستشفى لعلاج الفقراء، ومدرسة البنات أبلغتنا بضرورة سداد الرسوم كاملة بعد أن كنا نفاوضها من أجل تخفيضها... إحدى البنات مصابة بالسكري وتعالج بعقار مستورد تم وقف صرفه من التأمين الصحي... حطموني ومن الصعب الإقدام على فعل الخير بعد هذا الموقف كي لا أتحمل مسؤولية أكبر من طاقتي».