بوقفه برنامج نشر الدرع الصاروخية قرب الحدود الروسية، يكون الرئيس باراك أوباما قطع مسافة أخرى، بعيداً عن سياسة سلفه جورج بوش والرؤساء الآخرين الذين كانت تتحكم بهم عقدة الحرب الباردة. نذكر في هذا المجال رونالد ريغان وحرب النجوم التي تحولت إلى لعبة إلكترونية للأطفال والمراهقين. لا جدال في أن نشر الدرع الصاروخية في بولندا وتشيخيا كان المقصود به مواجهة روسيا. الأغبياء وحدهم كانوا مقتنعين بطروحات إدارة بوش في أنها لدرء خطر الصواريخ الإيرانية، فلم يكن ترحيب البولنديين والتشيك سراً حين أعلنوا موافقتهم على البرنامج لمواجهة الخطر الروسي. الخطر القادم من طهران كان بالنسبة إليهم نكتة سمجة من عيار النكات الكئيبة في عهد الشيوعية. وها هم الآن يأسفون لوضع حد للبرنامج المكلف (100 بليون دولار حتى اليوم) لأن وقفه، على ما قالوا، سيضعهم في مواجهة عسكرية غير متكافئة مع موسكو، غير عابئين بالمواجهة السياسية معها إذا استكملت واشنطن البرنامج. لكن هذه ليست حال ألمانيا التي خرجت من الحرب الباردة واستعادت وحدتها، من دون التطلع إلى الثأر من الجيش الأحمر والعصر السوفياتي. برلين رحبت بخطوة أوباما وتعمل لاستثمارها سياسياً، على المستويين الأوروبي والدولي، معتقدة، عن حق، بأنها ستسهل نشر الثقافة السياسية الأوروبية الأكثر اعتدالاً من السياسة الأميركية، وتسهل الضغط على إيران، بعدما اطمأنت روسيا إلى حدودها. هذا الإنقلاب على سياسة بوش والإدارات السابقة، ستقتصر تداعياته على أوروبا ولن تتعداها إلى الدول المرتبطة بالميتروبول الأميركي، ما لم تتلوها خطوة مماثلة في الشرق الأوسط، يستبعد أن تتم الآن. على أن اتخاذها يسهل التعاطي مع إيران أكثر، وينزع منها أهم ورقة في توجهاتها الثورية. ونعني بها ورقة الصراع العربي -الإسرائيلي. التحول الأميركي من محامي الدولة العبرية في المحافل الدولية، خصوصاً في مجلس الأمن، والمدافع عنها عسكرياً، إلى وسيط نزيه بين الطرفين، يحتاج من أوباما، إذا افترضنا أنه يريد هذا التحول، إلى مواجهة داخلية غير مستعد لخوضها. فالكونغرس، بغالبية جمهورييه وديموقراطييه سيقف ضده إذا اقترب من البقرة المقدسة (إسرائيل). ولن يتوانى كثيرون عن اتهامه بالعودة إلى أصوله الإسلامية. النهج الأميركي في تبني إسرائيل جعل حكوماتها المتعاقبة تهزأ بقرارات الأممالمتحدة وتعتبرها لا تساوي الحبر الذي كتبت به، معتمدة بذلك على دعم واشنطن ومكافآتها السخية من أموال دافعي الضرائب الأميركيين، أما محاولات البيت الأبيض النادرة لثني تل أبيب عن تماديها في تحدي الشرعية الدولية فلم تكن سوى تهديدات لا تلبث أن تنقلب إلى عكسها. معتمداً على هذا النهج، رأينا بنيامين نتانياهو، في ولايته الأولى، يتحدى البيت الأبيض في نقل المعركة معه إلى قلب واشنطن. وها هو في ولايته الثانية يتحدى أوباما برفض تجميد الإستيطان، ولو لفترة موقتة، لإطلاق مفاوضات مع الفلسطينين، مهدداً بمقاطعة خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، إذا أصر على طلبه، من دون أن يتخذ البيت الأبيض أي إجراء، مهما كان بسيطاً، مثل تأجيل المناورات المشتركة المزمع إجراؤها قريباً بين الجيشين. سيقف أوباما أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، مسجلاً بعض التحول في التعاطي الأميركي مع المنظمة الدولية، ومسلحاً بإلغاء برنامج الدرع الصاروخية في أوروبا، وبإبتسامة سفيرته سوزان رايس بدلاً من شوارب جون بولتون، مكتفياً بانتصارعظيم في الشرق الأوسط: قبول نتانياهو عقد اجتماع معه ومع الرئيس الفلسطيني محمود عباس. وبالتهجم على إيران والإشادة ببعض العرب.