ليس الحادث الإرهابي الذي استهدف مديرية أمن الدقهلية في المنصورة (دلتا مصر) الأول منذ الإطاحة بحكم الإخوان بفعل ثورة 30 يونيو، لكنه الأكبر والأفدح والأوعر، وهو يأتي تنفيذاً لتهديدات جماعات تكفيرية وسلفية جهادية بهذا من على منصة «رابعة» حيث اعتصم أتباع تنظيم «الإخوان» وحلفاؤهم لسبعة أسابيع بعد عزل محمد مرسي. فجميعنا يتذكر هذا الرجل ذا اللحية الكثة، الفظيع المنظر، الأسود المخبر، الذي وقف أمام الكاميرا ليهدد بسيارات مفخخة ستنفجر في كل مكان، وستجري الدماء أنهاراً، مكملاً رحلة حلفائه الماكرين الذين قالوا من قبل: إن لم يعلن فوز مرسي سنحرق مصر كلها، ثم حاولوا هذا بعد فض تجمعهم في رابعة والنهضة، فاستهدفوا مراكز الشرطة والكنائس والمنشآت الحكومية وكثيراً من بيوت المواطنين العزل الأبرياء في مختلف المحافظات المصرية. الإرهابيون يزحفون غرباً وشمالاً في مصر، فبعد تفجيرات شمال سيناء المتتابعة على مدار الشهور الستة الفائتة، ومثلها في مدينتي الإسماعيلية وبورسعيد على قناة السويس، يصل الإرهاب إلى قلب دلتا مصر، التي كانت بعيدة من مثل هذه الأفعال الدموية خلال الموجة الإرهابية التي انكسرت في الثمانينات والتسعينات، وانتهت بتراجع الإرهابيين، بعضهم عن اقتناع بعدم جدوى الدم أو حرمته، وبعضهم تحايل ليلتقط أنفاسه ويعود من جديد، وبعضهم لأنه حاول أن يصل إلى هدفه بطرق غير دموية، وإن كان كثيرون من هؤلاء عادوا إلى سيرتهم الأولى بعد ثورة يونيو، وبان للجميع أن لم يطلقوا العنف إلى غير رجعة كما زعموا. واستغل بعض المتطرفين حالة الإرباك الأمني التي أعقبت كسر جهاز أمني، قمعي وفاسد، في 28 كانون الثاني (يناير) 2011 وأعادوا تجميع أنفسهم من جديد، في خلايا، يطلقون عليها «الجهاديون الجدد»، أو هكذا يسميها خبراء بعد رصد توالدها على الساحة المصرية في الشهور الأخيرة، بعضها يتحالف مع تنظيم الإخوان سراً، ويعمل لمصلحته سواء بطريقة مباشرة من خلال تنسيق وترتيب نطق به بعض قادة «الإخوان» وهم يهددون عقب الإطاحة بمرسي، أو بطريقة غير مباشرة حين يحتمي بغطاء سياسي «إخواني» ويفعل ما قد يصب في مصلحة الجماعة العجوز. وبعضها يعمل بعيداً من «الإخوان»، وإن كان قد رأى في حكمهم مرحلة لعبوره إلى السلطة حتى على جثث مئات الآلاف من الناس، أو تعامل معهم على أساس أن «الإخوان»، وإن اختلفوا معهم في بعض الأفكار والتدابير، فهم، والسلفيون، أقرب إليهم من القوى السياسية والفكرية الأخرى في المجتمع المصري. وكلا الطرفين، الجهادي والإخواني، يتكاملان الآن على الساحة في أعمال إرهابية مدبرة، يريدون منها أيضاً أن يعيقوا تقدم «خريطة الطريق»، بعد أن وصلت إلى باب الاستفتاء على الدستور منتصف كانون الثاني (يناير) المقبل، أو إجبار السلطة على الجلوس معهم، وفي الوقت ذاته ينتقمون من شعب لفظهم، يصفونه الآن بأنه «جاهلي» أو «كافر» ويستحلون دمه وماله وعرضه. وفي كل الأحوال فإن كل هذه الجماعات الإرهابية نابتة من فكر التكفير الذي زرعته كتابات الإخواني سيد قطب، بعد أن سطا على تصورات الباكستاني أبو الأعلى المودوي وأضاف إليه من حدته وسخطه الكثير، وكذلك أفكار أخيه محمد قطب التي ضمنها في كتابه «جاهلية القرن العشرين». ويبدو أن الساحة الاجتماعية المصرية تزخر الآن بمثل هذه التنظيمات الجهادية والتفكيرية الصغيرة، فالخلافات التنظيمية والفقهية طالما قادت على مدار السنوات الماضية إلى انشقاقات داخل «الحركة الإسلامية» المصرية بما أوجد تنظيمات صغيرة، محدودة الانتشار الجغرافي ضعيفة الإمكانات حديثة النشأة لا تملك رصيداً كبيراً من الإطار الفقهي النظري الذي يبرر وجودها ويحدد علاقاتها بالمجتمع والدولة والجماعات الإسلامية الأخرى. ومن ثم اختفى أغلب هذه التنظيمات بعد مواجهة أمنية حاسمة أو القبض على قادتها، وبعضهم عاد إلى الحياة الحركية مرة أخرى بعد الخروج من السجون، وإفراج سلطة «الإخوان» ومن قبلها المجلس العسكري الذي حكم مصر بعد الإطاحة بحسني مبارك عن العديد من قيادات هذه التنظيمات. وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر هنا من هذه الجماعات الهامشية التي عرفتها مصر في تسعينات القرن العشرين: تنظيم «السمني» و«الأهرام» و«جهاد الساحل» و«الواثقون من النصر» و«الغرباء» و«تنظيم أحمد يوسف» و«الفرماويون» و«الناجون من النار» و«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» و«التكفير الجديد» و«أبناء الصعيد» و«النذير» و«التوحيد»، و«الشوقيون»، و«جماعة الفتح» و«الخلافة» و«جنود الرحمن» و«العصبة الهاشمية» و«مجموعة التسعين»، و«القصاص العادل»، و«القرآنيون» و«الجهاد الصحيح»، و«السماويون»، و«القطبيون»، وغيرهم. وهناك تقديرات بحثية وأمنية وصلت بعدد هذه الجماعات وقتها إلى سبعين تنظيماً على الأقل. في يقيني فإن هذا الحادث الإرهابي سينكسر على إرادة المصريين، مثلما انكسرت مئات الحوادث قبله منذ أن بدأ «التنظيم الخاص» للإخوان عنفه الدموي في أربعينات القرن المنصرم وحتى مراجعات تنظيم «الجماعة الإسلامية» مع مطلع القرن الحالي. سينكسر لأن «الجريمة لا تفيد» و«الإرهاب لا يجدي» بل يزيد من متانة وارتفاع الجدار النفسي العازل بين هؤلاء، وكل من يشجعهم أو يتواطأ معهم، وبين عموم المصريين، الذين كانوا يتوقعون مثل هذه السلوكيات الدموية والهمجية من التكفيرين والإرهابيين، بل إن بسطاء الناس كانوا يقدرون أن إسقاط حكم «الإخوان» لن يمر بلا ثمن، لكنه في نظرهم ثمن بخس إن قيس بترك هذا التنظيم في السلطة وقتاً إضافياً، يسمح له بمصادرة مستقبل مصر كله، بعد أن تتم «أخونة» جهازها الأمني والبيروقراطي والإمساك برقبة جيشها وتحويله إلى «جيش عقائدي» أو تكوين ميليشيات مسلحة أو «حرس إخواني مسلح»، يدافع عن استمرار حكمهم، ويقمع معارضيهم ومخالفيهم. * كاتب مصري