صنعت مصر جماعة «الإخوان المسلمين» عام 1928 فصنعوا ظاهرة «الإسلام السياسي» في العالم بأسره، إما انسلاخاً منهم أو مضاهاة لهم أو امتداداً لجماعتهم التي جعلت مقصدها ما تسميه «أستاذية العالم»، فساحت في الأرض وراء هذا الحلم بعيد المنال. وبانكسار الإخوان بعد إزاحة حكمهم في مصر، تتعرض فكرتهم للانطفاء، وتتساقط شعاراتهم الأخلاقية، ويتصدع تنظيمهم، ما يفتح باباً وسيعاً أمام أسئلة منطقية عن إمكان انزلاق الجماعة من العمل السياسي السلمي إلى ممارسة العنف المنظم والسقوط في ارتكاب الإرهاب، سواء بالأصالة، من خلال كوادرها الغاضبة، مثلما جرى في أربعينات القرن المنصرم وخمسيناته وستيناته، أو بالوكالة من خلال التعاون مع تنظيمات تكفيرية موجودة في مصر أو أخرى مثيلة في الخارج، أو من خلال التواطؤ وتوفير الغطاء السياسي للإرهاب. لكن قبل الإجابة عن هذا السؤال علينا أن نجيب على سؤال مبدئي أو أولي هو: أي سيناريوات كانت مطروحة أمام الإخوان أنفسهم بعد ثورة 30 يونيو؟ الجواب ليس سهلاً مع استمرار حالة «الالتهاب العاطفي» للجماعة بعد إسقاطها عن الحكم، وظاهرة التصريحات المتضاربة التي تتوازى مع العودة شبه الكاملة إلى «العمل السري». لكن يمكن أن نصل إلى تحديد هذه المسارات من خلال استقراء الطريقة التي يفكر بها الإخوان، والتي ندركها من قراءة تاريخهم، والسياق الراهن الذي يحيط بهم، والارتباطات والرهانات الدولية عليهم، والتي جعلت إدارة أوباما تستثمر فيهم الكثير، لتوظيفهم في خدمة المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. وبناء على هذا، يمكن القول إن الإخوان كانوا بصدد السير في واحد من هذه الدروب، أو التقاط واحد من هذه الخيارات: 1 - خيار إلى الأمام: ويعني مراجعة الأفكار والأدوار وإبداء الاعتذار عما اقترفته الجماعة في حق الشعب المصري من أخطاء أثناء وجودها في الحكم. وبتقديم تصور جديد يؤلف بين الجماعة وبين فكرة «الوطنية» ويظهر إيمانها الجازم بالتعددية السياسية والفكرية وتداول السلطة، وقطعها بأن الديموقراطية لا تعني فقط «صندوق انتخاب» إنما هذا مجرد إجراء من حزمة إجراءات يجب أن تواكبها قيم ونسق للحرية الشخصية والعامة والتسامح والانفتاح وتكافؤ للفرص واحترام حقوق الإنسان، وكذلك إعادة ترتيب صفوف الجماعة بما يقود إلى تنحية القادة المنحدرين من «التنظيم الخاص» الذي مارس العنف والإرهاب ويتقدم بالإصلاحيين على حساب المنتمين إلى أفكار سيد قطب التكفيرية. وبعد هذا يمكن المجتمع أن يعيد بشكل طوعي دمج الإخوان، فكراً وتنظيماً، ولن يبقى سوى وضع هذا التنظيم تحت سلطان الدولة، مراقبة ومحاسبة، بدل إبقائه على صيغته الحالية، وكأنه دولة داخل الدولة. 2 خيار إلى الخلف: وهو الدخول في مواجهة عنيفة وأعمال عدائية وإرهابية ضد المجتمع ومؤسسات الدولة، وفي طليعتها القوات المسلحة، انتقاماً من إسقاط سلطة الإخوان ورغبة في إفشال السلطة التي حلت محلهم، وإرهاق الدولة وإنهاك قواها، وإجبار أهل الحكم على تقديم تنازلات جذرية أو فارقة. وهذا الخيار يعني ببساطة انتحار الإخوان، لأنه لا يمكن تنظيماً أن ينتصر على شعب، أو يهز أركان دولة راسخة مثل مصر، لديها تجربة في التعامل مع الإرهاب، وسبق لها أن انتصرت عليه أكثر من مرة. 3 خيار الثبات في المكان: وبمقتضاه يدخل الإخوان في تفاوض مع السلطة الجديدة يعيدهم إلى الحياة العامة تحت طائلة المشروعية القانونية والشرعية السياسية، فيخوضون غمار الانتخابات البرلمانية والمحلية وربما الرئاسية، ويظهرون تسليمهم التام بما جرى، لكنهم يبطنون عكس ذلك من خلال تمويل وتحريك بعض التنظيمات التكفيرية التي تمارس الإرهاب لاستنزاف الدولة. ويتطلب الشق الأول من هذا الخيار إبقاء «حزب الحرية والعدالة» الذراع السياسية للإخوان تحت طائلة الشرعية، أما إذا صدر حكم قضائي أو غيره بعزل الإخوان وحل حزبهم، مثلما يطالب البعض، فإن الجماعة ستعود إلى ما كانت عليه قبل قيام ثورة يناير. وبعد فقد الخيارين الأول والثاني، لم يعد أمام الإخوان، على ما يبدو سوى الخيار الثالث. وهنا توجد حكاية يرويها دوماً نبيل نعيم، أحد قادة تنظيم الجهاد المصري، والذي حارب في أفغانستان سنوات وزامل بن لادن والظواهري. يقول إن قيادياً إخوانياً كان يطلق على نفسه اسماً حركياً هو «عز الدين» أتى، أكثر من مرة، إلى مدينة بيشاور الباكستانية قادماً من أوروبا خلال فترة التسعينات من القرن المنصرم ليمول إرهابيين يقومون بأعمال في مصر ضد النظام الحاكم، وأنه عرض هذا على الظواهري فقال له: نحن اخترنا الآن محاربة الغرب الذي هو «العدو البعيد» ونؤجل مواجهة النظم الحاكمة في العالم العربي «العدو القريب»، كما أن الجهاديين في مصر لم يعد لهم وجود قوي، لأن أغلبهم جاء إلى أفغانستان، ومن ثم ليس بوسعي أن أستجيب لطلبك. ويكمل نعيم: ذهب عز الدين هذا إلى قادة من «الجماعة الإسلامية» تمكنوا من الهرب إلى أفغانستان، وأبرم معهم اتفاقاً يقضي بتمويل عملياتهم بُغية إنهاك النظام عبر إظهاره بمظهر العاجز عن صد الإرهاب، والتأثير السلبي على الأوضاع الاقتصادية من خلال ضرب السياحة وحركة الاستثمار الآتي من الخارج. ومع كل عملية كانت جماعة الإخوان تُصدر بيان إدانة، لتبين للنظام والرأي العام المصرى أنها تدين الإرهاب، وأنه من الممكن الاعتماد عليها في محاربته، أو لمّ شمل التنظيمات العنيفة وتطويقها وحصارها إذا سُمح للإخوان بحيازة مشروعية قانونية وشرعية سياسية. رايات سوداء؟ هذه رواية إن صحّت تجعلنا نعرف أنه ليس غريباً أو جديداً أن يتحالف الإخوان مع تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات الجهادية سراً، وإن كانوا قد درجوا طوال السنوات الماضية على مهاجمته في العلن وإدانة هجماته واعتداءاته الإرهابية. فرايات القاعدة السوداء ظهرت في كل الحشود الإخوانية في ميدان التحرير أيام حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة السابق، وبانت أكثر في اعتصامي رابعة والنهضة. ثم اتضحت الصورة بشكل جلي خلال العمليات التي دبرها الإخوان في ميدان رمسيس. ولم يقتصر الأمر هذه المرة على رفع الرايات السود، إنما رأينا أسلحة نارية مرفوعة في قبضات أيدي عناصر القاعدة وسط الإخوان، وزاد الأمر رسوخاً بعد إعلان قوات الأمن القبض على باكستاني وسوداني وفلسطينيين وسوريين من بين المجموعة التي حاولت اقتحام قسم شرطة الأزبكية. وأيام حكم المجلس العسكري السابق رأينا إفراطاً في الحديث عن ضبط خلية لتنظيم «القاعدة» في حي مدينة نصر في أيلول (سبتمبر) 2012، ويومها كتبت في مقال لي «أتمنى ألا يكون الأمر اصطناعاً جديداً، وأن تكون أجهزتنا الأمنية يقظة لحفظ أمن البلاد، لا للتدليس على الناس والرئيس، فيزداد خوفاً وانكماشاً ويسرع إلى فرض قوانين استثنائية تصفّي الثورة تماماً. وقد يكون الرئيس نفسه على علم وفهم لما يجري، ويسعده أو يحقق مصلحته عودة القبضة الأمنية الباطشة، لأنه لا يملك حلولا واضحة على الأقل حتى الآن للمشاكل الحياتية المزمنة، ولا يعرف كيف يتصرف حيال التركة الثقيلة الموحشة التي خلفها مبارك ورحل». لكن ما يجري الآن يبين أن كثيراً من هذه الأخبار لم يجانبه الصواب أبداً. فما لا يمكن إنكاره أن هناك عناصر تكفيرية من القاعدة وغيرها قد أطلت برأسها على الساحة المصرية في السنتين الأخيرتين، وظهرت بيارقها ومواقفها في أحداث عدة، وبان خطرها جلياً في سيناء، واستغل بعضها الإرباك الذي أعقب اندلاع الثورة وما جرى في ليبيا وزحف إلى مصر قادماً من أماكن عدة، وزحفت معه كميات هائلة من السلاح. وما زاد الأمر وضوحاً هو قيام الرئيس الإخواني المعزول، محمد مرسي، بالإفراج عن قيادات جهادية إرهابية، مستخدماً حقه كرئيس للجمهورية في العفو عمن شاء من السجناء، فيومها تعجب كثيرون من هذه الخطوة، وحذروا من خطورتها، وتحدث البعض عن تحالف خفي بين الإخوان وبقايا التنظيمات الإرهابية، عبّر عن نفسه بوضوح خلال اللقاء الذي احتشد فيه الإخوان وأنصارهم من الجهاديين في الصالة المغطاة في ملعب القاهرة وقام خلاله مرسي بإعلان الجهاد في سورية وقطع العلاقات معها. وسبق هذا بالطبع انزلاق الإخوان أنفسهم إلى العنف والدم، وهو ما بدأ في اقتحامهم ميدان التحرير في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، ثم خطفهم وتعذيبهم وقتلهم محتجين سلميين عند قصر الاتحادية أثناء التظاهر ضد الإعلان الدستوري الاستبدادي الذي أصدره مرسي في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وكذلك عند مقر الجماعة في حي المقطم خلال «تظاهرة رد الكرامة»، ويوم 30 يونيو حين تحصن أكثر من مئتي عنصر مسلح في هذا المقر وأطلقوا النار على المتظاهرين. وقدم القيادي الإخواني محمد البلتاجي دليلاً دامغاً على هذا التحالف حين أطلق جملته الشهيرة: «إذا عاد مرسي إلى السلطة توقفت العمليات المسلحة ضد الجيش في سيناء فوراً»، وهي العبارة التي تفوه بها وسط أنصار الإخوان في رابعة ومعهم مجموعات من «السلفية الجهادية» كانت قد خططت في نيسان (أبريل) 2012 لاقتحام مبنى وزارة الدفاع، لكن القوات الخاصة للجيش تمكنت من إجبار المهاجمين على الفرار خائبين. وتحالف الإخوان مع القاعدة ليس مستغرباً بعد أن تحكمت في تنظيم الإخوان مجموعة تؤمن بأفكار سيد قطب، التي تكفر السلطة والمجتمع وتبرر حمل السلاح ضدهما، وترى في الغرب دار حرب وتستحل أموال المسيحيين ودماءهم، وكذلك في ظل حاجة الإخوان الماسة إلى التكفيريين المسلحين في تنفيذ مخططهم بإنهاك الدولة مثلما هو دائر الآن في مصر. ويزيد هذا الاحتمال أن الساحة المصرية شهدت ميلاد مجموعات جهادية جديدة بعد ثورة يناير، تختلف مع نهج تنظيم الجهاد التقليدي وكذلك مع «الجماعة الإسلامية». ولا شك في أن عين الأمن اليقظة أيام مبارك حرمت الإخوان من أن يسلحوا تنظيمهم الخاص ويدربوه على النحو الذي يمكنهم من الدفاع عن حكمهم عنوة حين حازوه بعد ثورة يناير، كما أن الموجة الثورية الهائلة التي خرجت في 30 يونيو الماضي وتعززت بخروج طوفان بشرى يوم 26 تموز (يوليو) الفائت حرمت الإخوان من تنفيذ مخططهم بتكوين تنظيم للأمن الداخلي على غرار «الباسيج» في إيران. وبالتالى لم يعد لهم، إن نفذوا مخططاً إرهابياً، سوى الاستعانة بعناصر من القاعدة تسللت إلى مصر، واستقر عدد كبير منها في سيناء، وكذلك مجموعات تنتمي إلى «الجماعة الإسلامية» ممن ارتدوا عن المراجعات التي قامت بها الجماعة، وأعلنت بمقتضاها تركها للعنف وحمل السلاح ضد الدولة والمجتمع. وظهرت أعمال هذه المجموعات الإرهابية المسلحة في صعيد مصر بعدما أسقط الشعب حكم الإخوان بمساندة الجيش، وازدادت أعمالها بعد فض اعتصامَي رابعة والنهضة. أمن وتخطيط وبالطبع فإن المواجهة المباشرة والعاجلة لهذه التشكيلات الإرهابية، التي انضم إليها الإخوان، مشاركين وممولين وداعمين وموفرين الغطاء السياسي، تتطلب جهداً أمنياً فائقاً، سواء على مستوى جمع المعلومات عن الأوضاع الحالية، واستعادة المعلومات المخزنة عن العناصر والمجموعات والخطط والترتيبات، أو على مستوى الحركة السريعة والنشطة والخلاقة في توجيه ضربات استباقية، تحت مظلة القوانين. أما على المستوى البعيد، فإن من بيده السلطة عليه أن يؤمن بأن مواجهة التكفير والعنف والإرهاب الأسود يجب ألا تقف عند حد التدبير الأمني البحت والمباشر، بل تكون بتشجيع الخطاب الديني المعتدل الذي يروم تحقيق الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي والعمل الخيري، وليس حصد الكراسي والمناصب وإذكاء الصراع السياسي. كما تتطلب تعزيز التفكير العلمي، وتمتين المسار المدني في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعمران، وإطلاق مشروع وطني يُقام في ظله العدل الاجتماعي وتعلو الحريات العامة وترتفع كرامة المصريين، وتستوعب طاقة الشباب فلا يصبحون فريسة للتنظيمات الإرهابية سواء كانت داخلية نبتت كالهالوك في هذه الأرض، أو حملتها الريح إلينا من الخارج شظى وقذى. * كاتب مصري