لا يخبرنا الكاتب ج . م . كوتسي الفائز بجائزة نوبل عن الطريقة التي أسقط بها العار الذي حل بالبروفيسور لوري وابنته، فرائعته الروائية «العار»، الصادرة حديثاً في ترجمة عربية أنجزها عبد المقصود عبد الكريم عن «سلسلة الجوائز» (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة)، تنتهي بما يوحي أن الأمور صارت شبه عادية. تقبل لوري وضعه الجديد كقاتل للكلاب، كما تقبلت ابنته أن تكون أماً لطفل جاءها من طريق الاغتصاب. وفي المقابل اختفى بطرس وزوجته وقريبه الصغير من المكان المجاور للمزرعة من دون أن نعرف كيف حدث هذا، لكن كوتسي وضعنا في صفحة واحدة أمام نهاية ليست متوقعة بقدر ما هي مرغوب فيها، لملحمة طويلة من الخزي والعار . توقفنا الرواية أمام حياة على صفيح ساخن بين مهاجرين بيض، أو ما يمكن تسميته الجيل الثالث من المهاجرين البيض إلى جنوب أفريقيا، والسكان الأصليين الراغبين في استعادة ما استحوذ عليه البيض من مكانة وممتلكات في بلادهم. وبعيداً من استعمال الكلمات المباشرة عبّر كوتسي عن موقفه من هذه القضية من خلال شخصية البروفيسور لوري الذي تورط في علاقة حب مع تلميذة له، لكن السود استغلوا هذه العلاقة ضده. ولأنه لم يرَ أنه أتى بخطأ يستحق الاعتراف به أو الندم عليه فصلته الجامعة، ولم يجد أمامه غير الذهاب للإقامة مع ابنته لوسي في مزرعتها. وسرعان ما تعرضا لمهاجمة ثلاثة من السود، لم يسرقوا فقط سيارته ومقتنيات المنزل، ولكن تناوبوا على اغتصاب الفتاة، ووقف هو عاجزاً عن حمايتها، ورفضت هي أن تبلغ الشرطة باغتصابها، كما رفضت إجهاض نفسها، أو مغادرة البلاد التي تضمر لهما الكثير من الكراهية. وكانت على استعداد لأن تتنازل لجارها بطرس عن الأرض في مقابل أن يضمن هو حمايتها، لتنتهي الرواية بأنها تزرع أرضها في أمان من دون وجود للسود من حولها. يمكن القول إن الرواية معنية برصد الاختلافات الكبرى بين الجيلين الثاني والثالث، فالأب مؤمن بتفوقه كعنصر أبيض، وباستحقاقه كل ما حوله، وأنه ليس مغتصباً بقدر ما يشبع رغباته التي منحتها له الطبيعة، أما لوسي فهي ابنة لأب وأم اتخذ كل منهما طريقه المختلف منذ زمن بعيد، وكان عليها أن تتخذ هي أيضاً طريقها من دون مساعدة أحد، ولم يكن أمامها غير التعايش مع المكان الذي ولدت فيه، مؤمنة بأن عليها ضريبة لا بد من أن تدفعها، وليس لها من حلول غير البحث عن السلام مع أبناء المكان. كل هذه الاختلافات جعلت العلاقة بينها وبين الأب بلا تقاطعات. وعلى رغم كثرة الحوارات بينهما فإنها بدت حوارات مسرحية معبأة بالصدام لا التواصل، وكانت تبدو في كثير من الأحيان حواراً من طرف واحد، فهي لم تكن تجيبه على أسئلته البديهية، موقنة أنها مهما تحدثت فإنه لن يفهم طبيعة التوازنات التي تعيشها. لا نعرف إن كان كوتسي أراد اتهام لوري وابنته بالسلبية أم لا، لكن الجلي أنه وضع المجتمع الغربي المتعاطف معهما أمام عار اغتصاب حقوق الآخر، من خلال المأساة التي عرضت لها الرواية، واختلفت طريقة التعامل معها بحسب آلية كل جيل. ففي حين بدا الأب أنموذجاً للجيل الذي ورث حقاً طبيعياً يجب ألا يندم عليه أو يعترف بأنه خطأ، فإن ابنته لوسي التي ورثت وضعاً متغيراً بحكم رفض الجيل الجديد من أبناء المكان لطبيعة هذا الحق، ومن ثم فإن تعاملها مع الأمر كان أكثر واقعية، وأكثر اعترافاً بحقيقة موازين القوى الجديدة، ومن ثم كانت هي الباحثة عن صيغة للتعايش وليس الصدام. أما هو فكان تعامله هو مع أزمته أقرب إلى الموقف الرومنطيقي، المتعالي على حقيقة ما يجري في الواقع على رغم تحذيرات كل القريبين منه، هؤلاء الذين لم يطالبوه بأكثر من الاعتراف بأن ما فعله كان خطأ يمكنه أن يعلن ندمه عليه، لكنه أصر على موقفه المنتمي إلى لحظة تاريخية سابقة. ومن ثم جاءت النهايات المنطقية التي فقد على أساسها كل شيء، ورضي بعدها بأقل مما كان معروضاً عليه، ليصبح في النهاية مجرد مساعد لممرضة حيوانات موبوءة، بينما تفوز هي بالبقاء في منزلها وأرضها لتصبح أماً جيدة لطفل يمكن اعتباره المعادل الرمزي لمستقبل المكان بعد انتهاء حالة التمييز العنصري. تضمنت الرواية في بنيتها الفنية الكثير من المقولات الأدبية والأبيات الشعرية والأسماء الروائية، ربما لأن بطلها بروفيسور في الآداب، وله كتاب عن الأوبرا، وآخر عن الرؤيا لدى المتصوفة، وثالث عن الشاعر وردزورث والتاريخ، ويسعى الى كتابة أوبرا عن بيرون ومحظياته. وربما لأن كوتسي اعتمد على ثلاث دوائر سردية في النص، الأولى عن البطل، والثانية عن ابنته، والثالثة كانت ذلك الفضاء الذي يسعى فيه البطل إلى الجمع بين ما يعيشه من عار وما أنتجه الغرب من فكر متقدم، لم تكن الرواية جدلاً بين جيلين ولكن بين واقع وتاريخ، ولم يكن العار مقتصراً على شخص لكنه خزي يجلل المركزية الأوروبية، تلك التي لا تملك غير الاعتراف بأن ما فعلته في أفريقيا كان خطأ يستوجب الندم عليه. وعسى أن يصل كلا الطرفين إلى حال من التسامح والسلام، بدلاً من البقاء على صفيح ساخن لقرون أخرى.