حين يذكر «الكتاب»، فغالباً ما تجري الإحالة على النص الأصل، وهو ما ظهر في اشتغال أدونيس في «الكتاب»، لكنّ ديوان «سرّ الكتاب» للشاعر المغربي إدريس علّوش لا يحيل على كتاب محدد، فالكتاب الصادر قبل أيام، في مجموعة شعرية جديدة حملت العنوان أعلاه، هو كتاب الحياة وأسرارها وتفاصيلها الصغيرة، كتاب الوجود وأسئلته، وكتاب الشاعر المكافح والإنسانيّ الذي يبحث عن الحبّ والجمال في الأشياء البسيطة. هذا هو الكتاب الرابع عشر للشاعر (مواليد أصيلة 1964)، وقد صدر من دار دجلة في عمّان، متضمناً ثلاثة عشر نصّا، (في 112 صفحة)، كتب كلمة الغلاف الأخير له الشاعر العراقي حميد سعيد، كلمة مختصرة جاء فيها «في هذا المحيط الذي لا حدود له، من الكتابة الشعرية، يصبح مجرد أن يجد الشاعر حضوراً لقصيدته في هذا المحيط المفتوح، بإطلالتها الإبداعية، لا بحضور مصطنع، إنجازاً إبداعياً مهمّاً. وهذا الحضور الإبداعي لا يكون مصادفة، بل هو وليد مقوّمات إبداعية، جمالية وفكرية، تغتني بالموهبة وعوامل نضجها وديمومتها». وعن تجربة علّوش يقول حميد سعيد «علّوش يواصل عمله الشعري، ويواصل معه حضوره الإبداعي، حيث يقترن بإضافات شاخصة، ينفتح أمامها محيط الكتابة الشعرية، ويفسح لها مكاناً للحضور». قصيدة علّوش هي نصّ مفتوح على التأمّل والأسئلة الوجودية والفكرية، وعلى الموقف من الحياة وفضاءاتها المعتمة، مفتوح على الأزقة والحانات والأحذية الثخينة، على المشرّدين والبؤساء، وعلى الهمّ السياسيّ والثقافيّ، عبر لغة خشنة وحادّة، فمن قصيدة «أروقة لأزقة الضياء» نقرأ: لكي أبحث عنّي/ ربّما أجدني/ كما طفولة البارحة/ مفعمًا بالسراح المطلق/ وبياض الألوان...». وللغربة والاغتراب والضياع والمتاهات حضورها في نصوص الكتاب، إنّ للغربة «رائحة الموتى»، لكنّ الشاعر يوجّهها في الاتجاه المعاكس للمألوف، فتكون لكآبة الوجود قدرة أن «تحثّ الخطو، على المشي/ نحو مجهول أرخبيلات الذات». والعمر محض خراب إلى حدّ أن الشاعر لا يجازف حين يسمّيه «البقاء». ورغم أنّ شخص القصيدة «متعدّد في اللّحظات»، إلا أنّه «يخيط الزمن منفرداً»، في إحالة على فيلسوف الشعراء المعرّي، في البيت الشهير: جسدي خرقة تخاط إلى الأرض/ فيا خائط العوالم خطني. وفي استعارة قوية في مدلولاتها، يلتقط علّوش عبارة الشاعر عبد اللّطيف اللّعبي «الإنسان أعظم من قدره...» ليصوغ قصيدته «دالية الذّهول»، في رثاء الشاعر كريم حوماري الذي انتحر العام 1997، حيث يسفر الغروب/ عن وحي سدوله/ ليحمل الشّاعر أحرف البهاء/ ويلقي بتعب العمر إلى هودج البحر/ موقنًا أنّ شغب القصيدة/ أبقى من قفر الحياة/ وأخلد من تكهّنات الغيب..!». إنّه الإيمان بالشعر ورسالته من جانب، لكنه من جانب آخر عمق الشعور بالمصير المأسويّ للشاعر المختلف والمشاكس، وهو شعور يتكرر ويزداد كثافة وعمقاً في قصائد عدة، ويتخذ صوراً وأشكالاً متعددة، بعضها يأتي في صورة خواء العالم، حيث «ليس في بهو المكان/ عدا إسهامات الغجر/ ودوالي البدو الرّحل»، أو عبر «استعارات» حيث «الشّاعر الذي يشبهني/ ما يزال يبحث عن بلاغة القول/ ورشح الأشياء..»، أو الهاجس المرعب الذي يرى أن «الشّعراء في نهاية القرن/ مجبرون على نقر قصائدهم/ في أجهزة لا تعرف ما الخيال». وفي هذا الخضمّ، لا يتخلّى عن قوة الشعر، كما في عنوان إحدى القصائد «دويّ العبارة: دويّ العبارة يسبقني إلى مرفأ قصيدة...»، ليبرز «سرّ الكتاب». وقريباً ممّا يتصوّر الشعراء عن الحالة الذئبيّة، ينظر علّوش من هذا الموقع ليرى «الذّئب الّذي كان»، ويبصر أوهام هذا الذئب، لنرى معه كيف أنّ «استدراك رقص الخفافيش/ على أنغام طبول الفزع/ يبكيه». بل إنه يذهب إلى أن «الشّارع والشّاعر توأمان في الحزن لحظة الغياب.../على حافّة الإفلاس»، ولهذا فهو يجد نفسه يعدو ب «جيّادٍ ما لهنّ قوائم...!». وهو إذ يختتم كتابه بنصّ عن «وجع الرّأس»، فإنّما لينبش في عوالمه الحميمة، وليستلّ «من علبة «الأسبرين»/ ما شاءته سوريالية مواعيد الضّجر»، وليكتب عن «هدير حافلاتٍ/ تنهش رتابة العمر/ وأرصفةٍ مولعةٍ بأحذيةٍ (كانت له..!)/ صارت في المشي هودجًا لغبارٍ يراوغ/ واجهاتٍ تأسر رغبات امتلاكه لأشياء نادرة في اللّحظة». فنحن إذن أمام كاميرا/ عين الشاعر الرّائي، شاعر الشوارع والأزقّة، لا شاعر الأمكنة الفاخرة والباذخة، وهو ما نلمسه في مجمل الصنيع الإبداعيّ لإدريس علّوش، ابن التجربة الثقافية والسياسية البارزة في نتاجه.