هل يمكن لاتفاق تجاري لا تزيد كلفته عن 40 مليون يورو، أن يثير مساحة جدل واسع بين المغرب والاتحاد الأوروبي؟ الجواب أن البعد السياسي لهكذا اتفاق استأثر بحيز أكبر من الاهتمام. من جهة لأنه محك اختبار ملموس للتطور الحاصل، على خلفية منح الرباط «وضعاً متقدماً» في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي لم يحظ به أي طرف آخر منذ توسيع النفوذ الأوروبي شرقاً وجنوباً. ومن جهة ثانية لأن قرار تعليق الاتفاق السابق جاء بمبادرة من البرلمان الأوروبي، في وقت انتهى فيه مفعوله. المفارقة أن الحكومات الأوروبية التي تضررت من عدم تحديد الاتفاق هي التي حضت البرلمان الأوروبي على معاودة النظر في قراره. وكل ما فعله المغرب أنه أنهى وجود أساطيل الصيد الأجنبية في مياهه الإقليمية، طالما أن القرار صدر عن الأوروبيين أنفسهم. واللافت أنها المرة الأولى التي يناقض فيها البرلمان الأوروبي رغبات حكوماته، معللاً ذلك بحماية الثروات البحرية والبيئة وتسخير الموارد لفائدة سكان المحافظات الصحراوية. ثم يعاود البرلمان النظر في موقفه ويجيز بغالبية الأصوات سريان الاتفاق لفترة قادمة. في الاعتراض السابق الذي وضع اليوم إلى الخلف أن اتفاق الصيد الساحلي يشمل كافة المناطق الواقعة تحت نفوذ المغرب، وضمنها الساحل المتوسطي والامتداد الأطلسي. وبالتالي لا يمكن تجزئته ليطاول مناطق دون أخرى. ومنذ إبرام طبعته الأولى في ثمانينات القرن الماضي، شكلت مرجعية الوحدة إطاره القانوني والسياسي والاقتصادي. والغائب في المنظور السياسي أن اتفاق الصيد الساحلي كان في أصله ثنائياً بين المغرب وإسبانيا فقط، ما دفع الرباط لأن تنقله إلى مستوى آخر يشمل بلدان الاتحاد الأوروبي، يوم كان يطلق عليها السوق الأوروبية المشتركة. كان الهدف استخدام ورقة الصيد لحيازة دعم أوروبي، يستند إلى المرجعية التاريخية والقانونية التي مكنت المغرب من ضم المحافظات الصحراوية، من خلال اتفاق أبرم مع إسبانيا باعتبارها المستعمر السابق للإقليم. وكانت قضية الصحراء مسجلة في وثائق الأممالمتحدة كنزاع بين الرباطومدريد على السيادة. وعندما ارتضت الأخيرة إبرام اتفاق موسع، كان ذلك يعني الإقرار بشرعية الاتفاق، ما حذا الأوروبيين إلى نهج الأسلوب ذاته. لم يكونوا غافلين عن كافة المعطيات المتعلقة باتفاق ظل مفعوله سارياً عدة عقود. ولولا أن حكومة رئيس الوزراء المغربي السابق عبدالرحمن اليوسفي طلبت معاودة النظر في مضمون الاتفاق، لجهة زيادة المقابل المالي والإفادة من الخبرة الأوروبية في تطوير قطاع الصيد في المغرب، لما أثير أي جدل حوله. وإذ يتبين أن الأسطول الإسباني المستفيد رقم واحد من الاتفاق، يفهم لماذا تحول الملف من قضية اقتصادية وتجارية إلى محور سياسي. ففي أي مرة تجتاز فيها العلاقات بين الرباطومدريد مظاهر توتر، تعتلي حرب الأسماك الواجهة. والغريب اليوم أن مدريد في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية التي تجتازها، وفي غضون الانفراج الذي يطبع علاقاتها مع الجار الجنوبي أضحت المدافع الذي يتصدر المرافعات الأوروبية من أجل تحديد الاتفاق. كما البحر ميز علاقات المد والجزر بين المغرب وإسبانيا في تاريخهما القديم والمعاصر، فإنه يلقي بظلاله على آفاق العلاقات المغربية – الأوروبية، ولا تطلب الرباط في ضوء الشراكة السياسية والاقتصادية التي تجمعها مع الاتحاد الأوروبي سوى أن تحظى بمعاملة تفضيلية إزاء توريد منتوجاتها الزراعية إلى الأسواق الأوروبية. ففي النهاية يبدو الوضع أشبه بحرب طماطم وأسماك. حين يغلق المغاربة مرافئ الصيد تتعرض الطماطم الموجهة للاستهلاك الأوروبي، كما البرتقال ومنتوجات النسيج إلى الإتلاف من طرف الصيادين الإسبان الذين كانوا يعترضون سبل الشاحنات المغربية. وبسبب هذه المنافسة المفتوحة اكتفى الأوروبيون في ميلهم لدعم الشريك الإسباني إلى منح المغرب وصفاً متقدماً، بعد أن كانت الرباط طلبت في ثمانينات القرن الماضي انضماماً كاملاً للاتحاد الأوروبي. تغير منطق المغاربة كذلك، وباتوا أكثر اطمئناناً إلى إقامة شراكات أوسع مع أميركا ودول مجلس التعاون الخليجي، ما ساعد على تخفيف أجواء بعض التوترات التي تسود العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. والأكيد أن تطلع جيران الضفة الشمالية للبحر المتوسط إلى الامتداد الجنوبي، على خلفية الأزمات المالية والاقتصادية المتوالية، يساعد المغرب في تقوية موقفه التفاوضي. وكم يبدو الأمر محيراً فالذين طالبوا بتعليق اتفاق الصيد الساحلي هم اليوم أكثر حماسة لتصديق البرلمان الأوروبي على طبعته الجديدة. وأبرز إنجاز في هذا الصدد يتمثل في إلغاء الربط التعسفي بين اتفاق تجاري وملف سياسي اسمه قضية الصحراء الموضوعة على طاولة الأممالمتحدة دون غيرها.