من حق الشعب السوري والمعارضة السياسية والعسكرية أن تشكك في نيات الدول التي تدعو الى مفاوضات في جنيف، فأسبابنا عديدة للتخوف وثقتنا معدومة بجميع الأطراف ان كانت تزعم انها صديقة او انها تدعم الإجرام وتقاتل الى جانب النظام. اذا كان القرار هو الذهاب الى جنيف فلا بد ان نكون على أتم الاستعداد والوعي كي لا نقع رهينة لأي جهة أقوى منا أو نساق الى قرارات لا نريدها. إن إطلاق مسار تفاوضي قد يشكل فرصة لا بد من تقييمها ووضع استراتيجية للاستفادة من كل ما يمكننا ان نتسلح به من نصوص وضمانات تجنبنا مخاطر لا بد ان نواجهها. من حيث المبدأ فإن رفض المسار التفاوضي ليس في مصلحة المعارضة ذلك لأن الشعب السوري حاول المستحيل لسنوات طويلة قبل الثورة وبعد اندلاعها للتوصل الى تغيير سلمي. وعندما تعرض للقتل يئس من المسار السلمي وحمل السلاح لكنه لم يهوَ يوماً ان ينجر الى حرب يقاتل فيها السوري سورياً آخر ليحصل على حقوقه ويستعيد كرامته، وأي سوري وطني يتمنى ان يتوقف الاقتتال الذي زج النظام الشعب فيه. اليوم وبعد النكبة التي تعرض لها شعبنا في كل المناطق الثائرة تصعد أصوات من داخل المدن المنهكة مثل دوما وداريا وحمص وحلب لتقول انها مستمرة في المعركة لكنها ترى في المفاوضات وسيلة جديدة إضافية (وليست بديلة) لمواجهة النظام. كيف نتجنب المخاطر؟ أولاً بالإصرار على ان تكون هناك مرجعية واضحة لمؤتمر «جنيف 2» وهي وثيقة «جنيف»1 وإلا فلا داعي لتسمية المؤتمر «جنيف 2». لماذا «جنيف1» ؟ لأن الفريق الذي جلس ساعات طويلة لإعداد وثيقة «جنيف1» في حزيران (يونيو) 2012 كان يضم كبار المسؤولين الروس والأميركيين، وحرص الطرفان على تضمين البيان صيغة لا تتحدث صراحة عن رحيل النظام لكن كل بنودها تؤكد استحالة بقاء بشار الأسد. لذلك تشكل الوثيقة أفضل مرجعية ممكنة من حيث المضمون لأن الضبابية تسمح بجمع الأطراف على طاولة المفاوضات ومن حيث الطابع الإلزامي بما أن أكبر دولتين صاغتاها ثم وقع عليها وزير الخارجية الروسي لافروف إلى جانب هيلاري كلينتون. وخرج لافروف فور انتهاء الاجتماع الى المؤتمر الصحافي ليؤكد ان الوثيقة لا تعني بأي شكل من الأشكال رحيل بشار ولكن يبقى ان الوثيقة موجودة ومعتمدة من الطرفين وقد اتفقت روسيا والولايات المتحدة غداة إبرام اتفاقية نزع الأسلحة الكيماوية السورية على الدعوة الى مؤتمر «جنيف2» على أساسها. اما في حال الذهاب من دون أي مرجعية فهناك تخوف مشروع عند المعارضة من الوقوع في التجربة الفلسطينية عندما ذهب الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي الى أوسلو في 1992 حيث قبلت منظمة التحرير الفلسطينية بالدخول في مفاوضات غير مشروطة ومن دون مرجعية لتجد نفسها بعد عشرين عاماً لم تطبق سوى المرحلة الأولى التي نص عليها إعلان المبادئ والذي اتضح انه لا يتضمن أي ضمانات لباقي المراحل. ثانياً، نتجنب مخاطر العملية السياسية بالتمسك بنص وثيقة «جنيف1» حرفياً، فالوثيقة تقول بوضوح ان من حق المعارضة ان ترفض أسماء يطرحها النظام في وفده المفاوض في جنيف، كما من حق النظام ان يفعل حيال وفد المعارضة. لذلك لم يخالف رئيس الائتلاف أحمد الجربا نص «جنيف1» بقوله انه «يؤكد التزامه المطلق بأن هيئة الحكم الانتقالية لا يمكن أن يشارك فيها الأسد أو أي من المجرمين المسؤولين عن قتل الشعب السوري». ثالثاً، لقد اختار الديبلوماسيون الذين صاغوا وثيقة «جنيف1» المفردات بعناية وأشاروا الى تشكيل جسم حاكم انتقالي واستبعدوا عمداً كلمة الحكومة ليتجنبوا أي التباس حول تحديد من يملك السلطة الفعلية. ذلك لأن الحكومة في نظام سياسي رئاسي هي جزء من السلطة التنفيذية تعمل بإمرة الرئيس الذي يتمتع بأهم الصلاحيات التنفيذية، وبما ان النظام السوري وفق الدستور السوري هو نظام رئاسي (وهذا طبعاً على الورق فقط) فكان من المتوقع ان يفسر النظام وثيقة «جنيف1» على انها تقاسم للسلطة التنفيذية بين الرئيس والحكومة وبذلك يعتبر بشار الأسد نفسه باقياً في منصبه ومتمتعاً بصلاحيات دستورية واسعة وتكون الحكومة جهة منفذة لسياساته. وقد أكد الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون مؤخراً في إعلانه عن موعد 22 كانون الثاني (يناير) لعقد مؤتمر «جنيف2» أن هدف المفاوضات هو تشكيل هيئة تنفيذية انتقالية كاملة الصلاحيات بما فيها القرار بما يخص الجيش والشرطة والأمن وأجهزة المخابرات. وهذا ما يجب الاستناد إليه كتأكيد لمعنى وثيقة «جنيف1». رابعاً، بالإصرار على إلغاء الانتخابات الرئاسية في ربيع 2014. فإن تشكيل هيئة تنفيذية انتقالية كاملة الصلاحيات يعني عملياً خلق واقع سياسي ودستوري جديد يصبح نظام الأسد بموجبه نظاماً سابقاً. فالهيئة الحاكمة ستكون سلطة سيدة نفسها لا تخضع لأي جهة وهي التي ستضع الإطار القانوني والجدول الزمني لمختلف مراحل الفترة الانتقالية وهيئاتها بما فيها التحولات في المنظومة الأمنية والعسكرية لسورية وموعد وآلية رحيل الأسد وتحديد مواعيد جديدة لانتخابات تشريعية (هيئة تأسيسية للدستور ثم برلمان) ورئاسية لا يمكن ان تنظم قبل عام او عامين بعد تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية. وبمجرد ان يتم تشكيل الجسم الانتقالي لن يعود هناك مبرر للحديث عن موعد الانتخابات الرئاسية ولا اذا كان الأسد او غيره سيترشح لأن هذا الاستحقاق يسقط بطبيعة الحال وليس هناك مبرر لا للنظام ولا للمعارضة للحديث عنه او عمّن يستطيع الترشح او من يراقب هذه الانتخابات. بعض المسؤولين من دول داعمة للشعب وللثورة تتحدث بحسن نية عن انه يمكن استخدام موعد الانتخابات لإخراج سيناريو تقبل به الدول الداعمة للنظام بإزاحة بشار في ربيع 2014 من دون ان يظهر رحيله على انه تغيير للنظام نتيجة ضغوط داخلية او خارجية. الا ان ذلك قد يترك المجال للنظام والدول التي تسانده في اي وقت تتعثر فيه المفاوضات - وهذا سيحصل بطبيعة الحال - للتحجج بأن المفاوضات في مأزق وبالتالي لا بد من إجراء الانتخابات او ان يطرح تمديد الفترة الرئاسية لسنتين كما هو منصوص عليه في الدستور الحالي. لا بد للمعارضة ان تجهض هذا السيناريو الخطير الآن وذلك بالعمل فوراً على مطالبة الجهات الراعية للعملية التفاوضية بأن تعلن ان الانتخابات الرئاسية ملغاة بطبيعة الحال لأن المفاوضات نفسها تهدف الى رسم مسار جديد من خلال تشكيل هيئة حاكمة انتقالية كاملة الصلاحيات. * كاتبة سورية