المحافظة على جذوة الحبّ مستعرة بين زوجين بعد عقد من العيش المشترك، والحياة الهادئة المستقرّة، وسبل تهيئة الأسباب للسعادة، والمجاهدات الدائمة للتغلّب على الصعاب من أجل المحافظة على سلامة الأسرة، وحمايتها من العواصف التي قد تهبّ عليها في مفاصل حرجة تمرّ بها، تحظى باهتمام الفرنسيّين كريستين أوربان وأوليفير أوربان في رواية «لعبة حبّ مجنون»، (دار علاء الدين، ترجمة راغدة خوري، دمشق)، التي كتباها معاً. كريستين التي درست القانون وعملت محامية وكتبت روايات لاقت نجاحاً، تُشرك زوجها الناشر أوليفير بكتابة رواية «لعبة حبّ مجنون» التي تظهر موقّعة باسميهما. تعالج الرواية تجلّيات مشاعر متناقضة تمرّ بها الأسرة البسيطة المؤلّفة من زوجين؛ ماكس وكلوتيلد، وتستعرض تمظهرات الحبّ، الكذب، الملل، الخيانة، الخداع، التمثيل، السعادة، البؤس، الإيثار، وغيرها، من الأمور والمشاعر التي تتقاطع وتختلط لتهديم أسس الحياة الزوجيّة أو النهوض بها، تقدّمها الرواية عبر قصص متداخلة وأجزاء تتركّب لتستكمل بناء الصورة النهائيّة التي تحدّد الخاتمة. تبدأ الرواية باعتراف خطير من ماكس الذي يملك معرضاً فنّيّاً، يقرّ فيه بخيانته لزوجته كلوتيلد التي تعمل طبيبة ومحلّلة نفسيّة، مع شقراء تورّط معها رغماً عنه، لكنّه يعترف لنفسه، ويجبن عن الاعتراف لزوجته التي تستمع في عيادتها كلّ يوم إلى اعترافات مرضاها. ولأنّ ماكس يخشى على مشاعر زوجته، ويتوجّس من ردّ فعلها المُحتمل، فإنّه يستنكف عن قراره الاعتراف لها، ويحاول في قرارته تخطّي المشكلة، بمحاولته إسعاد زوجته بشتّى السبل، لكنّه يتفاجأ بتغيّر سلوك كلوتيلد التي بدأت تطيل مشاويرها خارج المنزل، وتتجاهله حين تكون معه، وفي إحدى المرّات يعثر بالمصادفة على دفتر يومياتها، ويدفعه الفضول إلى قراءته، ليكتشف هول مأساته، ورعب ما يعيشه. تتوالى الاعترافات، تكتب كلوتيلد في دفتر يوميّاتها قصصها وآلامها، تعترف بأنّ مشاعرها تجاه ماكس تغيّرت كثيراً، وأنّها لم تعد تحبّه، ثمّ تعترف بعد كثير من الآراء، التي تقهر ماكس في الصميم، بأنّها تنغمس في علاقة مع أحد مرضاها، تصف تفاصيل تلك العلاقة بطريقة مؤلمة جدّاً لماكس، كأنّها تتعمّد إذلاله بالارتماء في أحضان رجل آخر، ويكون الاعتراف الأخطر الذي يكاد يقضي على ماكس، ويجنّنه، هو أنّها حملت من ذلك الرجل وأجهضت في ما بعد.. يشعر ماكس بالانكسار والقهر والحقد، يشكّك بكلّ شيء، وبكلّ مَن حوله، يشكّك بصديقه المقرّب سقراط، يبتعد عنه لفترة، تتحوّل حياته إلى جحيم لا يطاق، ولا يفلح في مقارنة خيانته لزوجته مع خيانتها له، هو الذي كان يظنّ أنّ خيانتها له ستقتصر على المشاعر، يفجَع باكتشاف الأسوأ، لكنّه يجاهد للتحكّم بنفسه قبل مواجهتها بما قرأه من يوميّاتها. وعندما يحين أوان المواجهة، يتفاجأ بأنّ كلوتيلد تكون في قمّة الجاهزيّة للمحاماة عن نفسها، وتبرير يوميّاتها... تخبره كلوتيلد أنّها استمعت من الشقراء، التي ارتادت عيادتها مرّات، إلى تفاصيل علاقتها بماكس، وأنّ ذلك أصابها في مقتل، لأنّها شعرت أنّ ماكس نسف كلّ شيء في داخلها ودمّرها، فتملّكها شعور بالانتقام، واستدلّت على طريقة ملائمة لتنفيذ انتقامها، وهي المعاقبة بالمثل: أن تخونه، لكنّ كبرياءها ووعدها وحبّها وإخلاصها منعتها من الإقدام على ذلك وتنفيذه حقيقة، فاختارت طريقة لا تقلّ إيلاماً عن الممارسة الحقيقيّة، أن تخونه بالتخيّل، وبكتابة يوميّات متخيّلة، والحرص على إيهام ماكس أنّه عثر عليها بالمصادفة حين يتمّ ذلك. ونجحت في إيهامه، وإيلامه معاً، انتقمت من جناية ماكس بحقّها، واختلقت تفاصيل حميمة لعلاقة مزعومة مع رجل مجهول، وكانت تتفنّن في تعذيب ماكس بكتابتها، لأنّها كانت تجدّد غضبها وحقدها عبر الاطّلاع الدائم والاستماع المستمرّ إلى تفاصيل خيانة ماكس لها... لأنّ المرأة الجريحة التي تتملّكها رغبة الانتقام تغدو وحشاً شرساً لا تعدم السبل لتعذيب ضحيّتها – جلّادها، حيث الوهم يقتفي خطى الواقع ويتجاوزه تأثيراً. تتمحور الرواية حول لعبة المطاردة بين الزوجين، لعبة مجنونة تخرج عن السيطرة، يكون كلاهما ضحيّتها، يصرعهما الجنون الذي يتلبّسهما، حول رغبة الانتقام من الآخر على خيانته، يجلد كلّ واحد منهما نفسه وشريكه، يتواطآن على تجريع الآلام لنفسيهما، كلوتيلد تعترف على الورق، وتضع دفترها في مكان لا يستحيل فيه على ماكس العثور عليه، وماكس يدمن قراءة الاعترافات التي ينتظرها على جمر وباكتواء وتألّم وحرقة، يقرأ فيها صورته، يكتشف فيها هباء الحبّ الضائع، ولا جدوى الحياة الجوفاء، يتجرّع الكأس السامّة التي كان قد جرّعها لكلوتيلد، تتعاظم رغبة التشفّي من الآخر عند كلّ واحدٍ منهما، يكون البغض مدمّراً لأنّ حبّهما كان كبيراً، وفي لحظة الذروة، والاعتراف الحقيقيّ، ينهار برج الغضب ويتبدّد الحقد، إذ يتكفّل الاعتراف بتبديد الأوهام وترطيب الأجواء، ينشأ نوع من التندّم، والتخطيط لبداية جديدة بعيداً من الصراع المتوحّش الذي صيّر حياتهما مستنقعاً للآلام والشكوك والاعترافات التي لذعتهما بسياطها. تُطلعه كلوتيلد على طريقة وتفاصيل كتابتها ليوميّاتها المزعومة، وتخيّلها الأحداث الأكثر سوءاً التي ستؤذي بها مشاعر ماكس، وهي الخبيرة بما يؤذيه، بحيث توهمه أنّها تبوح بمكنوناتها، تحدّثه بألم باكية، كيف أنّها كانت قد استأجرت غرفة في فندق، كي تقضي فيها أوقاتها التي تغيب فيها عن المنزل، في سعيها لزرع الشكّ في قلب ماكس ورغبة تعذيبه، وتعترف له بأنّها وضعت اعترافاتها الحقيقيّة في بنك ويمكنه الاطّلاع عليها، تفوّضه بذلك، ويسارع ماكس لقراءة تلك الاعترافات، ومن ثمّ تمزيقها وإلقائها في النهر، كي تسير بعيداً عنهما، ليحاولا البداية من جديد، وتجاوز المشاكل التي كادت تودي بهما، بعد لعبة مجنونة وقعا ضحيّتها. تُبرز الرواية صوراً مختلفة للخيانة، تسوح في مفاهيم وتحليلات معمّقة عن الذكورة والأنوثة والأوهام التي تحيط بهما، وكيف يمكن امرأة أن تمارس نوعاً من الانتقام، وتمثيل الخيانة، في حين لا يمكنها الإقدام على الخيانة فعليّاً، تثير في نفس الزوج شكوكاً مفترسة، تنقل ردّ فعلها القاتل على التنكيد الذي أغرقها فيه... كما تظهر إمكانيّة الانتقام بالتخييل، والدخول في لعبة مرايا عاكسة لأقنعة حاجبة أليمة، ودور الكذب الجوهريّ في إمكانيّة تعكير الأجواء، لأنّ الكذب يكون وسيلة فعّالة للمداورة على الحقيقة والإيهام بها في الوقت نفسه. كذب فنّي ينزع راحة حقيقيّة، إذ يغدو الأسى سبباً للبراعة فيه بطريقة لا تقبل تشكيكاً. قد يكون بعض المرويّ لقطات أو مشاهد لما عِيش وعُوني منه في حياة الكاتبين، سواء بطريقة أو بأخرى، ولا شكّ في أنّه سيكون من المبالغة الاشتطاط في الإسقاط، لكنّ ربّما أريد من ذلك شيء من جانب الكاتبين، ولا سيّما في تركيزهما على ثنائيّة السرد، وتبادل السرد والاعتراف بين زوجين في معرض عاصفة حياتيّة كادت تودي بأسرة إثر نزوة مجنونة. تتحوّل الرواية في عدد من فصولها إلى تحليلات نفسيّة، تنزلق إلى فخّ التحليل الفرويديّ الذي تتحرّك في ظلاله، إذ تتلفّع بها وتغرق في تفاصيلها، فعلاوة على الاستشهاد المستمرّ بآراء فرويد وتحليلاته في معرض التحليل النفسيّ الذي كانت تمارسه الشخصيّات، ولا سيّما كلوتيلد التي تعدّ نفسها إحدى تلميذات فرويد، فإنّه كان يستحضر حين المناجاة الداخليّة بطريقة المساجلة الفكريّة، كما كان يستحضر من باب المقارنة بينه وبين بعض الأدباء والأطبّاء السابقين أو اللاحقين أو المعاصرين له... كمقارنة بعض تحليلاته ببعض الرؤى الأدبيّة الواردة لدى ليو تولستوي في «آنّا كارنينا»، أو مقارنة وسائله في العلاج مع وسائل المحلّل النفسيّ فيرنتسي الذي كان كثير الانسجام مع مرضاه والاحتكاك بهم. تحرص الرواية على تقديم مناطق معتمة في الحياة الزوجيّة، عبر الغوص في التحليل النفسيّ، في لا وعي الشخصيّات ودواخلها، لتمرئي الوقائع والأحداث التي يتمّ التغاضي عنها، من دون أن يتمّ نسيانها، وكيف أنّها تبقى فاعلة ومؤثّرة طيلة ما يتبقّى من أعمار.. وتطرح بالموازاة مع ذلك مقولة مهمة، وهي أنّ هناك إمكانيّة لاستعادة الحبّ بالحبّ... وأنّ محاولة استعادة الحبّ بمغامرة تضييعه قد تنقذه في اللحظة الأخيرة.