يقدّر الاقتصاديون قوى السوق كثيراً، ويرون أن آلية السوق، من خلال «ميكانزم» الأسعار قادرة على إصلاح أي خلل يحدث في توازنها. ولهذا تقوم النظرية الاقتصادية على افتراض حرية السوق، ومبدأ «دعه يعمل دعه يمر»، كناية عن عدم التدخل، لأن هناك دائماً «يداً خفية»، تعيد السوق إلى توازنها كلما جنحت عنها. والحقيقة أن كل سوق لسلعة أو خدمة هي في حال توازن، فحينما تدخل للبقالة وتأخذ قارورة مياه صحية فإنك تضع ريالك على الكاونتر وتنصرف، من دون أن تسأل البائع أو يسألك. وهذا معناه أن سعر التوازن الذي يقبله المنتج للمياه والمستهلك لها هو ريال واحد. ولو اختل هذا التوازن، فإن السوق ستبحث عن نقطة توازن جديدة يقبلها طرفاه. لهذا ترى كتب الاقتصاد أن أي تدخل في قوى السوق سيخلق تشوهاً من نوع ما. وعلى اليد الأخرى، يثبت ويشهد الواقع أن مثل هذه التحليلات بقيت حبيسة بطون الكتب، وأنه ليست هناك سوق لم يدخلها التشوه عن طريق تدخل الحكومة - تحت ضغط عوامل مختلفة - تدعوها للتدخل. ولعل أبرز ثلاثة مشوهات لقوى السوق عن طريق تدخل الحكومة هي الضريبة، والإعانة، والتسعير. ولنبدأ من الأخيرة، فالتسعير يفرز ظاهرة السوق السوداء مباشرة، لأن التسعير يكون عادة بأقل من سعر التوازن السوقي، فيلجأ التاجر لبيع كميات قليلة تحت أعين الرقابة ملتزماً بالسعر الذي حددته، ولكنه يبيع في الخفاء كميات أكبر عند سعر التوازن الذي تحدده السوق من خلال قوى العرض والطلب. ولا شك في أن السعوديين يتذكرون أزمات اختفاء الأسمنت والشعير والحديد من السوق مرات عدة، وتحوّل سوقها لما يشبه سوق مخدرات، تقابل عاملاً مجهولاً، وتتصل بتاجر يخفي شخصيته، ويوصلها ناقل لم يسبق لك أن التقيت به. ثاني المشوهات هو الإعانة، وهي تنفع المستهلك بخفض كلفة السلعة عليه، إلا أنها تخلق ظاهرة التهريب للخارج. ويعايش السعوديون يومياً قصص تهريب الديزل للإمارات والأردن وغيرهما، وتهريب الدقيق والقمح المدعوم إلى اليمن بشكل شبه يومي، وبكميات كبيرة. ولولا الإعانة لتساوت أسعار الديزل مع نظيرتها في الإمارات والأردن، ولتساوت أسعار الدقيق مع مثيلتها في اليمن ولاختفى التهريب (وما ذكر للتوضيح، وليس مطالبة بإلغاء الدعم). العامل الثالث في تشويه السوق هو الضريبة. وهي أسوأ المشوهات وأكثرها سلبية على معيشة ورفاهية المواطن، لأنها تتزامن مع ما يسمى «تشويه الضريبة» Tax Distortion، كما تترافق مع ظاهرة تهريب السلع للداخل، لتباع بسعر أقل من سعر السلعة بعد الضريبة، وأعلى من سعرها في سوقها التوازنية قبل فرض الضريبة. ولشرح تشويه الضريبة، افترض أن المجتمع ينتج عشر سيارات فقط، يبيع الواحدة منها ب100 ألف ريال، فلو فرضت الحكومة ضريبة نسبتها 10 في المئة على السيارة الواحدة، فما الذي يحصل؟ يصبح سعر السيارة 110 آلاف ريال، وهذا يؤدي لانخفاض الطلب على السيارات إلى تسع سيارات فقط (بحسب قانون الطلب الذي ينص على أنه إذا زاد سعر السلعة انخفض الطلب عليها). فإن كان عائد الضريبة سيذهب للحكومة لتمويل مشاريع أخرى، فلا يعتبر خسارة، إلا أن الخسارة المحضة «Net lose» على المجتمع أنه تخلى عن استهلاك سيارة، وأصبح يستهلك تسعاً فقط بدلاً من عشر. وهو ما يعني التأثير بالسالب في رفاهية المجتمع الذي خسر من استهلاكه سيارة واحدة بعد فرض الضريبة. عودة إلى عنوان المقالة، فالسعودية تشهد منذ عشرة أعوام أزمة إسكانية تجذّرت، وتضخمت، وطال أمدها، ويدور حديث شبه خجول عن فرض ضريبة الأراضي البيضاء لحل الأزمة. ويرى الاقتصاديون أن حل الأزمة يبدأ من فرض الضريبة أو الرسوم على الأراضي المخدومة داخل النطاق العمراني، كما هو متبع في دول كثيرة. والجميل في هذا الحل، أن ضريبة الأراضي لا يشملها التحليل السابق عن التشويه الضريبي. فالأرض لا يمكن تهريبها، كما لا يفقد المجتمع من رفاهيته شيئاً بفرض الضريبة عليها. فالعرض من الأراضي ثابت، ولن تنقص الأراضي بواحدة في حال فرض الضريبة (كما في مثال السيارات). ولهذا فإن الأرض هي الوعاء المفضل اقتصادياً لفرض الضريبة، لأن عائد الضريبة يتم توجيهه إلى أنشطة أخرى، والمجتمع لا ينقص من رفاهيته شيئاً بهذه الضريبة (ليست هناك خسارة محضة في ضريبة الأراضي). ختاماً، أعلم كم سيكون مؤلماً المطالبة بفرض ضريبة في بلد لا يعرف مواطنوه ما هي الضريبة، ولم يسبق لهم دفعها. ولكن لأن وضع سوق العقار نتج من وضع احتكاري غير صحي، فيجب أن يكون التدخل قوياً لفك تلك الاحتكارات، وتفتيتها عن طريق الضريبة، فآخر الطب الكي، وعلى وزارة الإسكان أن تختار بين الضريبة أو اللاحل لأزمة السكن في السعودية. * أكاديمي سعودي متخصص في الاقتصاد والمالية. ibnrubbiandr@