أبهر المصريون العالم بثورتين وإسقاط رئيسين وفترتين انتقاليتين وكتلتين متناحرتين وحشدين من أجل تصويت ب «نعمين» في دستورين مختلفين من أجل استقرارين متصارعين في أقل من ثلاث سنوات. ومكملين! أكمل أعضاء لجنة الخمسين المكلفين بتعديل دستور 2012 عملهم بجلسة احتفالية أشاد فيها الأعضاء بعملهم «الذي سيتحاكي به السابقون واللاحقون»، وأثنى خلالها الجميع على منتجهم الذي «يؤرخ له العالم»، وتبادل الكل في كلمات المحبة والود التي وصلت أحياناً إلى وصف أيام العمل ب «أجمل أيام في عمري»، ولم يتبق سوى أن يسلم حسام الغرياني إلى محمد مرسي نسخة «أفضل دستور عرفته مصر» وفي أقوال أخرى «أعظم دستور في التاريخ»، وفي أقوال ثالثة «أعظم دستور عرفته البشرية»! البشرية التي اختلط على بعضها الأمر، واندهش بعضها لتشابه الوضع، وابتسم بعضها الآخر ابتسامة مكتومة بعدما تبين الحال فرحت رغم عدم الارتياح، وغبطت رغم عدم الإعجاب بإنجاز مرحلة مهمة من مراحل خريطة الطريق. وعلى طول الطريق من مصر الجديدة إلى وسط القاهرة، ومن وسط القاهرة إلى المهندسين والعودة تقف لوحات إعلانية مستطيلة تغازل عيون قادة السيارات نصف المغلقة بفعل العوادم المتربصة والتي داهمها النعاس لطول فترة انتظار فرج مروري أعلى جسر 6 أكتوبر، وتدغدغ أحلام البسطاء المضغوطين المحبوسين الصابرين في ميكروباصات متهالكة أو باصات متصارعة، وتراود خيالات المرتاحين الشاردين الشادين أنفاس النارجيلة على المقاهي المتلاصقة على الأرصفة والمتوغلة في عرض الطريق. اللوحات يكسوها اللون الأخضر الزرعي الجميل الذي يعشقه المصريون لدلالاته على استقرار النيل وخصوبة التربة، ورغم إسقاطاته المتصلة بذكريات مؤلمة من الماضي القريب حيث «بالدستور العجلة تدور» و «علشان الاستقرار يعود»، إلا أنه يخطف الأبصار ويغازل الأذهان في ما قل ودل من الكلمات حيث «المشاركة في دستور 2013 نعم ل 30 يونيو و25 يناير». «ثورة يناير» التي اندلعت إطاحة بفرض الوصاية على الشعب وعصفاً ببسط السيطرة على إرادته وغضباً على استباق اختياره وضعت استثناءات وسمحت ب «إلات» في التجهيز والإعداد لاستفتاء الشعب على دستور 2013. قليلون فقط هم من انزعجوا من تذييل بعض أعضاء لجنة الخمسين لكلماتهم الاحتفالية بعبارة «الدستور الذي سيخرج الشعب للموافقة عليه» أو «الدستور الذي سيقول عليه المصريون نعم». ومعدودون فقط هم من تأذوا من ثناء اللجنة على نفسها وإطرائها على دستورها وتزكيتها لنصوصه وتعظيمها لبنوده. فالغالبية التي هرمت من الانتظار، وكلّت من الانبطاح، وتاقت إلى الانتهاء من أولى خطوات خريطة الطريق لم تعد تدقّق أو تتفحّص أو تتمحّص في من قال ماذا أو لماذا قال هذا. وبين «طول البال الذي يهدّ الجبال» و «طول البال الذي يبلغ الأمل»، أيقن المصريون أن أعراض الإنهاك ومظاهر الإرباك وظواهر الانقسام التي ألمت بهم منذ هبّت على شتائهم رياح ربيعية ساخنة محملة بالأتربة نالت من قدرتهم التاريخية المزمنة على طول البال والذي أوشك على هدّ الجبال وليس إبلاغ الآمال. آمال المصريين (من دون «الإخوان») تم وضعها طواعية في خاصية «الانتظار» بعدما اكتسبت قدرة هائلة على إعادة الصياغة والخضوع للصيانة تحسباً للتغيرات الطارئة والتبدلات المفاجئة. فمن أمس ثوري ليس ببعيد ندّد بتغزّل الجماعة في دستورها وتغنّي الإخوة بحلاوة لجنتهم وهمس الأخوات بعظمة مستقبل البلاد في ظل «أفضل دستور عرفه التاريخ» قبل الاطلاع على بنوده والتعرف إلى نصوصه والتمعن في قيوده، إلى حاضر اضطراري يدفع بكثيرين إلى إعادة إنتاج ثقافة «الإخوان» المادحة لكل ما يصدر عنها والمتغزلة في كل ما ينتج منها ولكن من دون الروح والدم المبذولين فداء لأمير المؤمنين مرسي، أو الطول والعرض المرفوعين للتأكيد على أن «مصر بلادنا إسلامية لا يهودية ولا بوذية». فإذا كان «الإخوان» وحلفاؤهم هتفوا بالأمس القريب دفاعاً استباقياً عن دستور جماعتهم طالبين الشهادة ومتمنين بذل الروح والدم من أجله ومؤكدين أن دستورهم الأفضل في التاريخ والأرقى في البشرية يبشر بأن مصر إسلامية، فلا هي باليهودية ولا هي بالبوذية، فإن هذه الأيام تشهد في شكل متصاعد دفاعاً استباقياً عن دستور 2013 لكن من دون الاعتداء على الملكية الذهنية للجماعة حيث الشهادة وبذل الدماء والتضحية بالأرواح والبحث عن الموت في سبيل مرسي أو الشرعية أو الدستور أو «رابعة» أو «النهضة» أو الحرائر أو ما يستجد. ما استجد في مجال الدعوة إلى المشاركة في الاستفتاء على الدستور ب «نعم» هو النظرة الوسطية المصرية إلى الأمور، حيث «البرغوث لا يستدعي حرق اللحاف» كما أشار عضو لجنة الخمسين المخرج خالد يوسف، وحيث إنه «ليس الحلم ولكن أحسن شيء ممكن نصل إليه اليوم» كما أشارت عضو اللجنة مستشار وزارة الصناعة عبلة عبداللطيف، وحيث أنه الدستور الذي «سيضع مصر على أعتاب الازدهار» كما جاء في كلمة مقرر اللجنة جابر جاد نصار. معزوفة الازدهار وطقطوقة الحلم ومحرقة البرغوث المتزامنة وبدء الحشد المناهض ل «الإخوان» عبر «نعم» لدستور 2013 لا تنغّص حياة المصريين بالمقدار الذي كانت أنشودة «نعم للدستور» تسبّبه وأهزوجة «نعم نعم للدستور» تفجّره. فالأنشودة التي كانت تذاع ليلاً نهاراً على قناة «الحافظ» في نهايات العام 2012 لتوعية المصريين بطريقهم إلى دستور البلاد الذي تصادف وكونه طريقهم إلى الجنة تقول كلماتها: «زي ما مرسي وعدنا، وعلشان بلدي أنا لازم أجري وهاقول للقاضي أنا موافق على الدستور» لم تراعِ معايير العملية الانتخابية التي لا تحتّم على الناخب إعلام القاضي بماهية تصويته. وقد لا تعرف طريقها إلى المصريين في نهايات العام 2013، لكن يبقى المعنى في بطن الشاعر حيث «لا للظلام نعم للدستور» و «لا للإخوان نعم للدستور» و «لا للجماعة نعم لمصر والدستور» و «ارفع علم مصر وقل نعم للدستور». وكان «الإخوان» سبقوا قبل عام برفع «راية» (وليس علم) مصر وقالوا نعم لدستورهم عبر أغنية «نعم للدستور» التي عرفها كل من كان يتابع قناة «مصر 25» لسان حالهم والتي تغنى منشدها بقوله «من بدري هنخرج من بدري على اللجنة ونصوّت على الدستور رافعين راية مصر بلدنا ونعم هنقولها للدستور». ورغم التغيير الجذري الذي طرأ على أغنيات «الإخوان» بعد عام، حيث أنشودة «ثورة دي ولا انقلاب» وأهزوجة «ثورة مع الشرعية»، إلا أن بعضهم يقترح متفكّهاً استعارة مخزون «الإخوان» الداعي إلى «نعم» للدستور واقتراض عباراتهم الأدبية الممجّدة للدستور الأفضل بشرياً والأعظم إنسانياً والأعلى تاريخياً، حفاظاً على البيئة من إهدار الموارد والطاقات، وتدويراً لما يمكن تدويره من عبارات وإشادات وأغنيات حيث الكلمة الأخيرة للمواطن وصندوق التصويت وورقة الاستفتاء.