ثلاثون شاباً وفتاة استطاعوا النطق بما لم تستطع ألسنتهم أن تنطقه، فلغتهم ليست مجرد إشارات وحركات جسدية، بل محاولة لاختراق حاجز اللغة والتخلص من عائق الإشارة التي لا يفهمها كثيرون، فكان لهم ما أرادوا فكسروا حاجز الصمت واستطاعوا بقوة التسلل الى عالم الأسوياء، وأن يوصلوا رسائلهم بأنفسهم من دون عوائق لغوية أو وسائط إشارية. هم «فرقة الصامتين» الذين يرون أن العالم بإمكانه التحدث بلغة الفن حيث تنتفي الحواجز وتفلت اللغة من حدودها الضيقة وتنفتح الطريق للغة الإبداع. واستضاف مسرح الحرية أخيراً عرضاً مسرحياً للفرقة، قدمت فيه ثلاثة عروض هي «كيلوباترا» و»نيران صديقة» و»أهل مصر». ويسافر الفريق مطلع الشهر المقبل إلى إيطاليا ليشارك في احتفالية عالمية تقيمها الأكاديمية المصرية في روما في الثالث من الشهر المقبل لمدة أسبوع عن تجربة «فرقة الصامتين»، بحضور مؤسسات فنية وثقافية عالمية، إضافة الى العاملين في مجال الإعاقة، وتتضمن ندوات وورش عمل وعروضاً مسرحية حركية. يقول رضا عبد العزيز مؤسس الفرقة ومخرج ومصمم الرقصات: «فرقة الصامتين هي الأولى من نوعها في العالم للرقص المسرحي للصم والبكم وتعتمد في تدريبها على تقنية الاتصال العظمي». يوصل عبد العزيز الإحساس الموسيقي والإيقاع عن طريق النقر على الكفوف والأكتاف، وهي مناطق عظمية يستطيع الصم والبكم من خلالها إدراك الإيقاع الموسيقي ليحققوا التوافق بين أدائهم الحركي وأنغام الموسيقى التي لا يسمعونها، فتتحول النغمات إلى «ذبذبات» يشعر بها الصامتون عوضاً عن سماعها، إلى أن يتوحد «التمبو» الموسيقي مع الحركات التي يؤدونها من طريق «دبة» السماعات، لتجد في النهاية توافقاً بين الأداء والأنغام. يقول عبدالعزيز عن بداية الفريق: «تعايشت مع الصم والبكم وشعرت بمعاناتهم في التواصل مع أقرانهم الذين لا يفهمون لغة الإشارة، وبفعل دراستي الأكاديمية اجتهدت في ابتكار لغة ثالثة استوحيتها من بيتهوفن الذي عاش هذه المأساة، ولدى فقدانه سمعه كان يضع رأسه على البيانو فيشعر بالذبذبات الخارجة منه من خلال عظم الجمجمة عبر الخلايا العصبية». ويضيف: «أدركت أنه لا بد من تحويل الموسيقى الى ذبذبات يشعر بها الراقصون الصم والبكم بعظمهم وفي الوقت نفسه، أدرّبهم أن هذه الحركة تتوافق مع الأخرى فيربط الراقص بين الإيقاع الذي يشعر به من خلال عظمه مع الحركات التي أدربه عليها والتي يتم تصميمها على الموسيقى، ومن ثم تربط الحركات معاً حتى تكتمل اللوحات الاستعراضية التي نقدمها للجمهور». يؤكد عبد العزيز أنه وجد صعوبة كبيرة في التواصل مع الراقصين الصم والبكم الذين لا يعرفون معنى كلمة موسيقى ولا يدركون حتى معنى الصوت فقد ولدوا صماً وبكماً ولم يحتكوا بالموسيقى مثل بيتهوفن الذي تعامل مع الموسيقى 30 سنة قبل أن يفقد سمعه». ويوضح : «نفعتني خبرتي الموسيقية ومعرفتي أن بيهوفن كان يشعر بالموسيقى من خلال عظمه، واستثمرت هذه الجزئية ودرستها بكل أبعادها وطورتها. وبعد معاناة استطعت عمل التوليفة وربط هؤلاء الشباب ليكون المنتَج لوحات استعراضية متكاملة يؤديها راقصون من الصم والبكم على موسيقى يشعرون بها ويتفاعلون معها من دون أن يسمعوها». يقدم الفريق المكون من 18 شاباً و12 فتاة، عروضاً تمتاز بالمضمون الإنساني، ولا تعتمد على التشكيل في الفراغ من دون هدف، ومنها عرض أجنحة صغيرة، ويناقش الانتهاكات التي يتعرض لها المعوقون، ومشكلة التدخين والإدمان. كما تناقش العروض قضية العنف ضد المرأة، وتؤرخ لحقبة مهمة في مصر بانتكاساتها وانتصاراتها. ويهدف الفريق الذي شارك في عدد من المهرجانات الى صنع اتجاه فني جديد يعمل لدمج الصم والبكم من خلال اللعبة المسرحية من دون استخدام لغة إشارة داخل العرض الذي يعتمد على لغة الأداء الحركي أو لغة الجسد. وتقول (بلغة الإشارة) أقدم عضو في الفريق سمر صبري، إنها وجدت صعوبة بالغة في البداية، وعندما بدأت تعتاد الأمر شعرت بالابتهاج والسعادة، فبعد سنوات من الوحدة والاكتئاب في المنزل وقلة الخروج، وجدت لنفسها نافذة إبداعية تطل من خلالها على الناس وتتحاور معهم من دون لغة إشارة ودون عوائق ومن دون حتى أن يدركوا أنها من ذوي الحاجات الخاصة. وتوضح بسمة فريد (بلغة الإشارة): « قبل الصامتين كان المجتمع هو الذي يوجه الرسائل لذوي الحاجات الخاصة، واليوم أصبح الصم والبكم يوجّهون رسائلهم بأنفسهم»، مشيرة الى أن «الصم والبكم يمكنهم أن يقوموا بأشياء لا يتخيلها الأشخاص العاديون، فالرقص مثلاً جعلني أكثر تواصلاً مع الناس وبات لدي أصدقاء كثر، والأهم لدي هدف أحيا من أجله».