على رغم ما قيل عن المبادرة الخليجية ودوافع إنجازها، إلا أنها تبقى اليوم عنصر توازن مهم، حمل اليمن إلى مرحلة الخروج من مأزق الحرب الأهلية بعد الثورة، وتبقى احتمالات اندلاعاتها جاثمة على المشهد في ظل تصدع الخليج وتخليه عن مسؤولياته اقتصادياً بعد المبادرة السياسية. المخرج الذي انتهت له المبادرة لن يُفقه بدقة، ما لم تُستدع محطات الربيع العربي الأخرى، وما تواجهه من إسقاط كلي وانقلابٍ شامل على الثورة في مسارها الديموقراطي كما جرى في مصر، وما يُحضّر في تونس وما تعيشه ليبيا من أزمة شرسة كضريبة مشاركة فصائل مسلحة لا تؤمن بالشراكة الوطنية في الخلاص الثوري، وهي لا تؤمن بمبدأ الشراكة الوطنية وقيام الدولة المدنية التي يحويها الفقه الإسلامي، حين تهدأ البندقية عن قصف العقل الفكري وعبوره للاستقرار الوطني. وفي ظل التوافق الإقليمي الدولي الذي يُباشر الحرب اليوم على ثوار سورية، فيما تواجههم فصائل قاعدية، يبدو لنا مسار الثورة اليمنية التي سخر منها النشطاء اليساريون في مصر في وضعٍ جيد نسبياً لو نجحت خطة العبور الدقيقة والحاسمة لليمن الجديد. من هنا، نعود إلى قراءة خلاصات المبادرة الخليجية، وأن سر نجاحها لم يكن مرتبطاً ب«الترويكة» الصعبة التي انتهت إليها المصالحة الوطنية، وإن كان القرار الخليجي بغض النظر عن دوافعه شكّل محطة مهمة، لدفع فريق الرئيس علي صالح وكل حلفائه التاريخيين إلى تدشين مرحلة وصول رئاسة دستورية لكل اليمن، بقرار سياسي وتوافق استبق حرباً أهلية شاملة، وما بعد ذلك فالنجاح فيه يكمن في استثمار خلاصة المبادرة للبناء عليها عبر حلف عملي وسياسي مع الرئيس عبد ربه هادي منصور، والقوى الوطنية والعشائرية المؤمنة بفكرة الخلاص الوطني الدستوري لليمن. نجاح البناء السياسي الجديد لم يقنع أضلاعاً قويّة في المشهد اليمني، إما لآيدلوجيتها أو مصالحها التي شعرت أنها ستغادرها إلى غير رجعة لو استقر اليمن الجديد، وترقّى دستورياً بتوافق شعبي لصناعة الجمهورية الثانية، التي ستقلص الفساد والزعامات الفئوية، ومن هنا اشتركت أطراف التطرف الرباعي وهي كتلة حلفاء الرئيس السابق علي عبدالله صالح والحركة الحوثية و«القاعدة» والقيادة المتشددة الفاعلة في الحراك الجنوبي، في دفع اليمن إلى مرحلة فوضى لا تُمكنها من استقرار وطني لدولة سيادية دستورية، تنهض بالحقوق والحريات في سلّم التدرج التنموي للجمهورية الوليدة. إشكالية علي عبدالله صالح وقواعده المصلحية، أنها كانت تراهن منذ تخليها عن السلطة على إعادة التشكل في الحياة السياسية الجديدة بالنزعة السلطوية نفسها، وليس بالشراكة الوطنية العامة، وبالتالي فإن استقلال قطاعات من حزب المؤتمر عن النفوذ الفعلي وتفاعله مع الرئيس هادي، اصطدم بهذه النزعة السلطوية، واضطر للمفاصلة معها، وهو ما جعل حزب علي صالح الموالي لشخصه يعمل بكثافة لإفشال المرحلة الانتقالية. الضلع الثاني هو الحركة الحوثية التي صعد تشددها الآيدلوجي إلى أقصى مدار، وأثّرت فيها مشاركتها القتالية في صفوف الميلشيات الطائفية في سورية المساندة لنظام الأسد ضمن هيئة الأركان الإيرانية للحرس الثوري، فارتد هذا التفاعل في صعدة عبر حصار دماج والتطورات الميدانية، وكان واضحاً أن الفصيل القيادي في الحوثيين لن يرضى بالتراضي الوطني في بعده الاجتماعي المذهبي، إذ جسدت الشراكة والاندماج الوطني بين الزيدية والشافعية صورة رائعة للعلاقات المذهبية في اليمن، بخاصة أن مدرسة الإمام زيد ذات مشتركات ضخمة مع المنهاج السني العام، وإن كان خطاب الغلو الذي اجتاح اليمن منذ أوائل الثمانينات أثر سلبياً، لكنه بقي في مستويات محدودة، ولم يُفجّر الحال الاجتماعية الوطنية كما فعلت الحركة الحوثية بعد تحولها إلى الإثني عشرية التكفيرية المتشددة. إن عودة التصالح الوطني الاجتماعي تؤثر في المشروع الآيدلوجي العنيف الذي يحمل خريطة سياسية جغرافية ملتحمة بإيران واستنساخ تجربة ما يُسمى بحزب الله في لبنان كقوة نفوذ مطلق تسيطر على الدولة وتبتلعها سياسياً، فطهران ترى الحركة الحوثية الذراع المؤهل إلى المرتبة الثانية في تنظيمات ولي الفقيه الإيراني العابرة للحدود، وتتعزز لديها القناعة أكثر بتقدم قواتها في سورية. وفيما يعتبر استقرار الجمهورية الثانية لليمن مدخلاً، لمصالحة وطنية إقليمية كبرى بين الجنوب والشمال عبر اتفاق فيديرالي واضح، يُصحح ما جرى من أوضاع ومظالم شرسة، فإن جناح من القيادة الحالية للحراك الجنوبي يسعى بكل قوته، لإسقاط هذا التوافق الذي طُرح بصراحة وشفافية في جلسات الحوار الوطني، والتأمل الدقيق في هذا التشدد يُبرز أمام الباحث أن دوافع تلك القيادات ليس مصالح الشطر الجنوبي الذي كان منذ التاريخ العربي القديم ضمن اليمن التاريخي، وإنما الصراع هنا على استرداد تاج السلطوية الذي نُزع منها بعد الوحدة، بيد أن الشعب اليمني لو نَفّذ اتفاق الفيديرالية، ونظّم حياته السياسية، سيخرج من شرنقة خطرة، يعيشها الحراك في التحالف الضمني مع الأضلاع الثلاثة الأخرى، والرهان على إسقاط الجهورية الثانية لن يخدم تطلعات الشعب في الجنوب، لكنه قد يحوله إلى أرض محروقة لبقية حلفائه وحلفاء الفشل الجديد. أما في ضفة «القاعدة»، فالنظرية الجامعة لكل تحركاتها هي «الأرض المحروقة»، أي أن فكرة الاستقطاب والصراع الذي كان يُبشر به على أنه مع الشيطان الغربي الأكبر ثم وكلائه في الأرض العربية، ثم مع الشعوب المتعاملة مع الواقع، خضوعاً أو مدافعة سياسية للإصلاح، لن تستمر وتنتعش في مراحل استقرار وطني اجتماعي، ولذلك فأينما دفعت المصالح والتقاطعات لتحويل اليمن إلى «أرضٍ محروقة»، فإن هناك تجاوباً مباشراً من «القاعدة»، وهو ما يخلق الرابط التنفيذي مع الأضلاع الثلاثة، والضحية اليمن ومشروع حلمه الحزين والمقاوِم. وأخيراً، بدا لدول الخليج أن خطاب التخويف من العصر اليمني الديموقراطي لم يعد له فاعلية، وأن الرئيس صالح الذي كان يُعتبر ضمانة لمقاومة هذا العصر، يشكل اليوم حزبه الشخصي قاعدة الدفع بين هذه الأضلاع، التي يعني نجاحها في اليمن خطراً كبيراً على وحدة اليمن سياسياً واجتماعياً وجغرافياً، وبالتالي تشظي الحدود السياسية مع الخليج، وتثبيت نفوذ إيراني على حدود السعودية. في المقابل، فإن نجاح مشروع الرئيس هادي وتحالف اللقاء المشترك وقوى الثورة، هو مدخل الخلاص لليمن والمصلحة الكبرى لجيرانه. وبالتالي، ثمة مسؤولية فورية على البيت الخليجي، فضلاً عن مسؤوليته نحو المبادرة، بدعم هذه الجمهورية وتثبيتها اقتصادياً، والتحرك بدعم مباشر سياسي وتنموي عاجل، كما أن دفع الرياض نحو قبول قادة من الحراك الجنوبي بالمصالحة الوطنية والاتفاق الفيديرالي أمرٌ ممكن، وهو ما سيخلق أرضية قوية تحيد بقية هذه الأضلاع، وتخلص اليمن من مشاريع أميركا وإيران التي أضحت صفقاتها تضرب في الخليج العربي. * باحث سعودي. [email protected]