لوحة كبيرة ملونة لم تكتمل بعد، تتصدرها صورة مكررة للرئيس المصري السابق أنور السادات. يبدو المشهد في الخلفية كغابة مورفة، ممتدة الأغصان والأوراق، يطل علينا السادات عبر تلك المساحة الملونة مبتسماً، وهو يرى ما آل إليه المشهد المصري من بعيد، هذا المشهد الذي كان ممسكاً ببداية خيوطه قبل ثلاثة عقود من الآن، ولا تزال بعض أطرافه الفاعلة موصولة به إلى الآن. اللوحة هي واحدة من مجموعة أعمال أخرى للفنان عادل السيوي، يواصل من خلالها طرحه البصري لوجه مصر كما يراه في ملامح عدد من الشخصيات التي عبرت واستقرت على صفحة الذاكرة. فنانون وأدباء ورياضيون وساسة، كانوا يملأون أجواء المحروسة ذات يوم صخباً وبهجة. ربما تبدو تلك اللوحة مدخلاً مناسباً للحديث عن تجربة السيوي التي لا تنفصل بأي حال عما يدور حوله وما ينشغل به المصريون. فمن محترفه المشرف على وسط القاهرة، بليلها، ومقاهيها، وشوارعها المزدحمة بالناس والذكريات، يحاول السيوي استجلاء ملامح تلك الصورة الغائمة، عبر انشغاله بالهم العام، كمصري، وكمثقف فاعل، وكفنان قبل كل شيء، تشغله اللوحة كمساحة شاسعة للبوح والتعبير، منذ أن ترك مهنة الطب في سبعينات القرن الماضي وسعى مقتفياً أثرها وتأثيرها. «ما الفارق بين اللوحة وأي منتج إبداعي آخر؟ - اللوحة صورة مصنوعة عبر الذات، فالفنان ينتج اللوحة بجسده، وليس بينه وبينها وسيط آخر. فهي صورة تكونت عبر مشاعر خاصة وعبر جسد خاص، وهذه هي قيمة اللوحة. العلاقة هنا عضوية خاصة جداً تجمعك مع الإنسان البدائي، فأنت تستعيد وأنت تنتج اللوحة الإنسان وهو ما زال يحاول الوقوف على قدميه، يريد أن يفهم العالم، ويريد أن يثبت أثره ووجوده بالخربشة على الجدران والأسطح. واللوحة يميزها أيضاً الخيال، فالوسائط الأخرى لديها عالم موجود تتعامل معه، أما الرسام فهو غير مرتبط بأي شيء. ألا ترى أن مكانة اللوحة تراجعت في ظل الممارسات الفنية المعاصرة؟ - اللوحة الآن في موقف دفاعي، فبعد أن كان التشكيلي هو الرسام أو المصور والنحات، صار البعض ينظر إلى هذه الأشكال كوسائط قديمة، انتهى زمانها. المصورون الآن يدافعون بشراسة عن حقهم في المعاصرة، وكانت الثمانينات هي بداية الشكوك العميقة حول قدرة التصوير على المعاصرة، وما زالت الشكوك موجودة بل وتزداد. وهل ترى أن اللوحة تستطيع المقاومة وسط كل هذه الشكوك؟ - نعم تستطيع، ولكن يجب على المصور أن يتخلى عن فكرة القيادة، عليه أن يرضى بأن يكون واحداً ضمن زمرة من المبدعين، ويتخلص من عقدة القائد، وهو أمر مهم وصعب في الوقت ذاته، فتأثير اللوحة طاغ على تاريخ العين والبصر، وكل عباقرة التشكيل تاريخياً هم مصورون: مايكل أنجلو، ليوناردو دافنشي، بيكاسو، وغيرهم. ولكن، اليوم علينا أن نتفهم طبيعة العصر الذي نعيش فيه بدلاً من التشبث بمكانة معينة فنفقد حضورنا. وأعتقد أن هناك الكثير من الرسامين يفهمون ذلك جيداً، ويدركون أن هناك الكثير من الأنماط والأنواع في مجال الإبداع البصري، وهو ما يميز المعاصرة، وجزء جميل من هذه المعاصرة أن لا أحد يسألك عما تفعل. ولا أحد يقول لك إن هذه ممارسات قديمة أو جديدة، ففي المعاصرة الفهم أصبح مفتوحاً. كما لم يعد الأمر محكوماً بمحيط جغرافي، فلا يجب أن تكون أوروبياً أو أميركياً كي تكون معاصراً، فالمسافات بين الشعوب أصبحت بالغة القرب، وبالتالي أصبح هناك أساس موضوعي للحديث عن المعاصرة إنسانياً، ولم يعد هناك أحد يمتلك وحده مهمة التعبير عن هذه المعاصرة. لك ملاحظات حول طريقة عمل المؤسسة الثقافية الرسمية في مصر، فكيف ترى تعامل الدولة المصرية مع الثقافة؟ - الدولة تنفق على الثقافة على مضض، كأنها غير مؤمنة بمسألة الثقافة هذه، رغم كل هذا التغني بالقوة المؤثرة والناعمة المصرية، فواقع الحال هو أن الثقافة هي الأقل موازنة. فالدولة تتعامل مع الثقافة كأحد المرافق، أو كما تتعامل مع الصرف الصحي. فإذا تطرقنا إلى موضوع الجمال على سبيل المثل كأحد أوجه الثقافة فسنكتشف أنه شيء ثانوي جداً بالنسبة للدولة. انظر إلى مقارها وإلى مبانيها، فستدرك أن هناك عداء مع الجمال والإبداع بعامة. فالفن دائماً هو مجال للتغيير والخلاف. وهو يشكل روحاً ونفساً يصعب سحقهما، ولكن في ظل وجود القبح يمكن أن تفعل ما تريد. وأي سلطة تريد أن تستبد يجب أن تدخل في عداء مباشر مع فكرة الجمال والإبداع والثقافة. كنت عضواً في لجنة الفنون التشكيلية، في المجلس الأعلى للثقافة، لكنك استقلت قبل اكتمال الدورة، فما سبب ذلك؟ - كان لدي تصورات معينة لطريقة عمل المجلس الأعلى للثقافة، لكني فوجئت بواقع مغاير تماماً لهذه التصورات. فاللجنة كانت مجرد مجموعة من أصحاب المصالح، تقوم بتوزيع الهدايا والعطايا البائسة على نفسها وعلى المحاسيب: سفريات، معارض، مخصصات المقتنيات. وليس هناك أي حديث حول الحركة التشكيلية في مصر، حول مشاكلها أو إخفاقاتها. كنت أتخيل أننا سنجلس لنناقش كعقول ما يدور داخل الحركة التشكيلية المصرية، لكنني اكتشفت أن الأمر لا يعدو مجرد اقتسامات تافهة جداً ومخجلة. واستقلت بعدما اكتشفت أنه لا يوجد أي أمل في الأفق، فالمجلس في حقيقة الأمر لا هو مجلس، ولا هو أعلى. قدمت استقالتي حينذاك لأسباب تدعو إلى المحاسبة، فأموال المقتنيات مثلاً يتم توزيعها على لجنة المقتنيات ذاتها، ثم لأحبتهم ومعارفهم، وما يتبقى يتم توزيعه أيضاً على من هم على شاكلتهم. هل كان هذا هو السبب في طرحك مقترح إعادة تشكيل المجلس الأعلى للثقافة؟ - طُرح الموضوع للمرة الأولى في عام 1998 بعد تقديم استقالتي من لجنة الفنون التشكيلية، ثم طرحته مرة أخرى عام 2002، في مؤتمر دعي إليه فاروق حسني وعقد تحت عنوان «تجديد الخطاب الثقافي»، وقدمت فيه ورقة حول ضرورة التفكير مرة أخرى في دور المجلس الأعلى للثقافة، وكان أبرز ما جاء في هذا المقترح هو فك الارتباط بين هذا المجلس ووزارة الثقافة، بمعنى ألا يكون المجلس خاضعاً لسلطة وزير الثقافة، وأن يكون مجلساً أعلى بالفعل، وكان رد الفعل مزيجاً من السخرية والتهكم. بعد الثورة تم التفكير في ذلك الطرح مرة أخرى، وكنت حريصاً هذه المرة على ألا تكون الفكرة شخصية، فتم التوقيع عليها من عدد من المثقفين، من بينهم عماد أبو غازي، وكان وقتذاك أميناً للمجلس الأعلى للثقافة، وكان مؤمناً معي بعدالة الفكرة، وهو الذي زودني بكل ما أحتاجه من أوراق ومستندات. استمر العمل في وضع المقترحات والتشاور حولها ما يقرب من شهرين، وأثناء ذلك أصبح عماد أبو غازي وزيراً للثقافة، فتصورت أن الأمر بات سهل المنال، ولكن يبدو أن «المجلس العسكري»، وكان على رأس السلطة حينذاك، لم يكن يريد أية تغييرات كبرى في تلك المرحلة الانتقالية، بالتالي تم إهمال تلك المقترحات. بمرور الوقت تيقنت معه في من أن فكرة المشاركة هي أمر بالغ الصعوبة، فانتزاع قرار بيد مجموعة من المثقفين بهذا الشكل سيكون سابقة يمكن تكرارها بعد ذلك. فالسلطة لدينا فترى دائماً أنها الأفضل والأقدر على تصور الأمور. كما أدركت أن جماعة المثقفين ليس لديها قدرة على الضغط. هناك محاولات للعمل بعيداً من دائرة الثقافة الرسمية بتكوين كيانات ثقافية مستقلة، غير أنها تتعامل مع الثقافة بمنطق الربح والخسارة، فكيف تنظر إلى هذا الأمر؟ - عليك أن تقارن النخبة المصرية خلال النصف الأول من القرن العشرين بالنخبة المصرية في النصف الثاني منه لتعرف ماذا أنتجت الثقافة المصرية حين كانت تقوم على أكتاف أفراد. أعتقد أنه لا يمكن العملية الثقافية أن تنتظم في مصر من دون العلاقة بين الأطراف المختلفة المعنية بالثقافة: الناس والدولة والمؤسسات الربحية. يجب ألا تترك وزارة الثقافة وحدها - وهي مجرد جزء - تقود مجموعاً كلياً، هو أكبر منها في الحقيقة، فالثقافة المصرية أكبر من وزارة الثقافة، وكانت موجودة قبل وزارة الثقافة، وستبقى لو ألغيت وزارة الثقافة. لماذا يبدو المثقفون متأرجحين في موقفهم من السلطة؟ - هذه أزمة كبيرة عند المثقف عموماً، فهي طبيعة المثقفين في العالم كله. فتجد على سبيل المثل أن مثقفاً عظيماً مثل هايدغر كان مؤيداً للنازية. فهمك للمثقف هو أنه شخص يقف مع الحق ومع القضية العادلة، وهذا غير صحيح، فالمثقفون دائماً مواقفهم مربكة ومرتبكة. وهناك من المثقفين من يرى أنه يكتسب قوته كمثقف من احتياج المؤسسة الرسمية له، بالتالي لا يدخل في تعارض كامل معها، وفي الوقت نفسه يجب أن يكون لديه صلة بالصوت الآخر حتى لا يفقد الصلة والعلاقة مع الآخرين. ألا تشعرك هذه الأجواء بالإحباط أو اليأس؟ - أنا لست يائساً، أو محبطاً، بمقدار ما أنا مدرك لصعوبة اللحظة. فأنا أعول على الشعب المصري الذي صنع شيئاً تاريخياً، وهو ثورة يناير، رغم أن هناك قوى تريد إلغاء هذا الأمر، وترغب في إعادتنا مرة أخرى إلى ما كنا عليه في السابق. ولكن، مهما اجتهد هؤلاء فهم سيفشلون حتماً. في 25 يناير تبلورت فكرة الحرية في أذهان المصريين، وأثبتوا أنهم جديرون بها. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يقولها المصريون، ولكنها المرة الأولى التي يقولونها بهذه الحدة والتصديق. ونحن إذا نظرنا إلى الأمور الآن فسنعتقد أن الأمر في غاية القتامة، ولكن حين نرى حجم ما أنجز فسندرك أنه ليس قليلاً، فما حدث في يناير عظيم وسيفرض نفسه على الواقع في السنوات المقبلة. فهناك جيل يشعر بأنه في أول صدام له قد حقق نجاحاً، وهؤلاء في رأيي هم من سيحملون لواء التغيير.