بدا الطبيب يائساً من حالة أبي التي تتدهور بأسرع مما قدر لها، ثم واجهني بقنوطه بنبرة صوت عالية جعلتني أستشعر رجاءه بعدم إحضاره إلى عيادته مرة أخرى. وكان أبي الذي لا يكاد يبين من حشوات المقعد الوثير الذي يجلس عليه ومن داخل بدلته التي اتسعت عليه جداً، ينظر إلينا بعين بليد ينتظر انتهاء والديه من مشادتهما حتى يطعماه. أنهى الطبيب الحوار بصوت رتيب وهو يعيد النصائح التي كان يلقنها لي في كل مرة: ألا أبدو متكدراً أمامه، وأن أترك له مساحات للحركة حتى لا يظن أنني في سبيلي الى مهاجمته، وألا أخيّره بين أنواع الطعام الذي سيتناوله أو الملابس التي سيرتديها، وأن أبدي اهتماماً بحكاياته عن طفولته التى يظنها واقعه الآن أو أية فترة زمنية ماضية ارتكن إليها عقله ساعتها. كما شدد عليّ بألا يرتفع صوتي أمامه وألا أنشغل بما يهشّمه ويكسره أثناء تحركه في البيت. وكان الطبيب نفسه خالف غالبية هذه النصائح أثناء الكشف على والدي، ثم طلب مني الحرص على إعطائه الدواء بانتظام، وبعجالة فتح درج مكتبه وأخرج منه DVD داخل غلاف كرتوني ناولني إياه بلا اكتراث. الغلاف كانت عليه صورة لعجوز يبتسم بينما زوجته الأقل منه في العمر بقليل تحلق له ذقنه باهتمام مضفر بحنان يكاد يشع تألقاً وهو يخرج من الصورة. وكانت هناك كتابة بالإنكليزية فوق الصورة ولها ترجمة بالعربية خلف غلاف ال DVD تفيد بأن المحتوى يتضمن تمارين لأسر ورعاة مرضى الألزهايمر حتى يتأهلوا لمساعدة ضحايا هذا المرض. شكرت الطبيب معتقداً أنه منحني هدية، غير أن بسمة سخرية فرت من شفتيه وهو يدون قيمة ال DVD على ورقة الكشف المزينة باسمه ويومئ لي بدفع القيمة لسكرتيرته. كان هذا إذناً بالانصراف غير أنني تذكرت عارضاً صحياً حدث لأبي في الأيام الأخيرة عند استيقاظه من النوم، كان يجاهد لتحريك قدميه أو الوقوف وكان يعجز عن ذلك فترة طويلة حتى يساعده أي فرد في المنزل بصعوبة بالغة، كالمدير الذي يوقّع قرار رفدك من العمل بحجة أن العمل يجهدك، قال الطبيب: هذا أمر عادي جداً، أنا أعجب أصلاً من أن عمره فوق الثمانين سنة وما زال يسير. طبيعي جداً أن هناك يوماً قريباً سينسى فيه كيفية السير ويعود كالطفل الرضيع، وهذا دليل على ذلك. طلبت من الطبيب بخجل في حال تدهور وتردي حالته أن يعوده في البيت، لكنه اعتذر بغلظة متحججاً بأن وقته لا يسمح، قدمت عرضاً أكثر إغراءً لكنه نصحني بجفاء بإيداعه في بيت للمسنين إن زهقت من رعايته. خرجت وأنا ألعن في سري هذا الطبيب الشهير الذي يعد من الخبراء المعدودين في مرض الألزهايمر والدمنيشا أو ما يطلق عليه مرض الخرف عند الكبار والذي يتعالى بعمله وقد خلت الرحمة من روحه وبدنه. في الخارج كان الشارع قد دب فيه الجنون. عدو وهرولة وقفزات تشبه وثبات حيوان الكانغرو، بينما نحن سائران حذو الجدران ببطء السلحفاة. كانت السرعات التي تمرق بجوارنا قد أربكت أبي جداً، وكنتُ مرتعباً من رد فعله غير المحسوب، غير أنه بدلاً من الهياج والثورة خاف جداً والتصق بي فسهل عليّ قياده. كنا في حرم آمن، كما يقال عنه؛ شارع عريض تحف به أشجار عتيقة ومحتل ببنايتين عملاقتين طولاً وعرضاً إحداهما للسفارة الأميركية والثانية للسفارة البريطانية وبضع مبانٍ قريبة لبنوك وهيئات دولية وأخرى سيادية. كان أمن المكان المحكم مثار ريبتي ورعبي، وكان الشارع مملوءاً بسيارات أمن مركزي يبرز من نتوء في خلفيتها جنود بأسلحة مشرعة في وجوهنا، ويداخلني شعور مرعب بأن قذيفة ما ستنطلق تجاهنا بلا قصد أو على سبيل ملل الجنود وزهقهم، وسيارات نقل جنود يحتل سقفها جنودٌ نائمون، وهناك أيضاً تلال من القمامة تحيط بالأبواب الحديد للسفارتين، وقطط وكلاب تتنازع وتعبث بفوارغ الأطعمة من فوم وبلاستيك وورق ألومنيوم وكرتون مزين بشعارات عسكرية. كان الشارع ما زال ممتداً أمامنا، ثم بدأت تقابلنا متاريس حديد وحواجز إسمنتية متناثرة خلف بعضها كمتاهات الملاهي، وكانت تفوح من الأرض روائح عفنة للبنزين والكيروسين والبول البشري وفضلات الحيوانات الصغيرة، وكان المهرولون يتفادوننا والجنود بعد أن يفحصونا بأعينهم يبتسمون ببشاشة ويفتحون لنا الممرات، وكانت هناك على مبعدة منا مجنزرتان وبعض السيارات المصفحة، ومدرعة أشبه بآلة عملاقة تسربت من أحد أفلام ستيفن سبيلبيرغ، تتصدرهم ويحرسها بعض الجنود. ثم دوّى نفير حاد جعل أبي يرتعش وهو يكبل ساعدي فوقفت أهدئه، غير أن هذه المرة نهرني ضابط كبير وكاد يتطاول عليّ وهو يصرخ طالباً منا سرعة التحرك ولم يكن مهتماً بما أجُّره. تحركنا وبعض الجنود يقفزون داخل السيارات، حتى أوشكت على الخروج إلى الساحة التي أجبروني على وضع سيارتي فيها ووجدت جندياً يعتلي سلّم إحدى السيارات المصفحة ويحتضن زميله الذي في الداخل، ثم يفتحان أذرعهما وهما يتلوان الفاتحة. وعندما دار محرك السيارة قفز منها الجندي بظهره من دون أن يختل توازنه، وأرسل يده في الفضاء مودعاً زميله، ثم هرع إلى مكانه بين زملائه الواقفين في انتظار مهمة أخرى. عاودتني الطمأنينة بمجرد خروجي من الشارع الآمن وأدخلت أبي السيارة، وكان مستسلماً تماماً ليدي وهي تجلسه وتُحكم شد حزام الأمان حول جسده. ونحن نغادر المكان، ألقى أبي بنظرة جانبية إلى فلول الجنود الذين يتقاطرون ثم همس لي متسائلاً: هل وصل روميل إلى القاهرة؟ لم أنتبه في بدء الأمر فأشاح برقبته ناظراً إلى الخارج، وأنا أسابق ساعة الحظر بالسيارة، فكرت في سؤاله ثم التفتُ إليه، كان في مرحلة زمنية أبعد بمراحل عما قدرت، كان يتلمس الدمية المعلقة في المرآة التي أمامه وهو يبتسم بصفاء.