في جلسة نقاش مع عدد من الصحافيين العرب قبل نحو أربع سنوات، كان وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو يطالع رسماً كاريكاتورياً في صحيفة أميركية، وفي الرسم صورة لرجل عثماني يرتدي الطربوش يدير ظهره لاوروبا ويدخل بازاراً شرقياً، في اشارة الى السجال الذي انتشر في اوروبا –حينها - حول تحول تركيا عن حلفائها في الغرب وتوجهها نحو الشرق. حينها قال أحد الصحافيين العرب الموجودين للوزير أنه لو كان رسام كاريكاتور، لصور هذا المشهد بشكل مغاير، في رسم يصور استاذ فلسفة يدخل أحد الفصول في مدرسة المشاغبين! اندهش داود أوغلو من هذا التشبيه وسأل عن سببه، فقال الصحافي: طالما أنكم عائدون وبقوة الى الشرق الاوسط بسياساتكم، وطالما ان جيرانكم الأقرب هم ايران والعراق وسورية ولبنان واسرائيل فإن عليكم أن تستعدوا لاسلوب عمل مختلف تماماً، لأن الضرب تحت الحزام والكيل بمكيالين والغدر، هي من بين أدوات العمل الديبلوماسي والسياسي في هذه المنطقة، بينما الخبرة الديبلوماسية التركية اعتادت على احتكاكها بالديبلوماسية الاوروبية ودول «الناتو». لم يمض وقت طويل على ربيع العلاقات التركية مع الشرق الاوسط والحديث عن مشاريع التكامل الاقتصادي التي اقترحها داود أوغلو، وربيع العلاقات بين أنقرة وطهران، حتى التفت ايران من وراء ظهر تركيا لتنصب حليفها نوري المالكي رئيساً للحكومة العراقية على رغم فوز حليف أنقرة أياد علاوي في الانتخابات، ثم لتظهر اسرائيل وجهها الحقيقي بجريمتها في الاعتداء على سفن مرمرة، والآن حادث اسقاط الطائرة التركية بمدافع الجيش السوري. لا أعتقد أن هذه الحوادث ستدفع وزير الخارجية أحمد داود أوغلو الى تغيير سياساته أو اعادة التفكير فيها، اذ لم أر سياسياً مؤمناً وعازماً على ما يقول مثله، خصوصاً في ما يتعلق بربط التاريخ بالسياسية والفلسفة، ومن هنا أطلق كثيرون على سياسات تركيا في المنطقة اسم «العثمانية الجديدة». وكما قال لي أحد الديبلوماسيين في الخارجية أثناء مناقشة سياسة تركيا تجاه الازمة السورية قبل ستة أشهر: «نعم قد لا تسير الامور في سورية مثلما نريد حالياً، لكن هذا لا يعني أن سياستنا خاطئة، نحن نشهد صراعاً بين حق الشعب السوري في التحرر والديموقراطية وبين صراع لمصالح القوى الدولية، لكن كل ما يحدث الآن سيكون بمثابة ضربة ريشة أو خط في لوحة كبيرة ستكتمل عندما يحصل الشعب السوري على حريته ويبني ديموقراطيته، وحينها سننظر الى الماضي ولن يتذكر أحد هذه الحوادث الصغيرة، وسنقف لننظر في عيون كل من انتقد سياستنا ونسأله: ماذا تقول الآن؟ «لعل هذا الديبلوماسي ومن دون أن يدري كان يتنبأ بحادث اسقاط الطائرة، ويستعد من الآن للرد على الانتقادات التي انهالت على حكومة رجب طيب أردوغان بعد الحادث من الداخل والخارج وكأنها كانت تتحين الفرصة للانقضاض عليه منذ زمن. وبعيداً من النقد المتلطخ بالتشفي الذي ظهر في الاعلامين اليوناني والاسرائيلي وبعض الانتقادات العربية المنزعجة من تمدد الدور التركي في المنطقة، فإن أول المنتقدين جدياً لسياسة تركيا الخارجية كان زعيم المعارضة البرلمانية كمال كيليجدار أوغلو الذي ركز على نقطتين اثنتين، الأولى أنه اعتبر أن سياسة تركيا تجاه سورية قد تغيرت بفعل أوامر جاءت من واشنطن التي لم يعجبها التقارب السوري - التركي منذ بدايته، والثانية قوله ان السياسة الخارجية للدول لا تبنى على الإسراف في التهديد والوعيد والخطب الرنانة والحماسية، حيث عقد مقارنة بين كلمة أردوغان بعد حادث اسقاط الطائرة وتلك التي ألقاها قبل سنتين بعد حادث سفينة مرمرة، ليخلص الى أن احداهما صورة عن الاخرى وأنه يسمع جعجعة ولا يرى طحيناً. في النقطة الاولى تجنب كيليجدار أوغلو الحديث عما يحدث في سورية وعن تقارير انتهاكات حقوق الانسان، ولم يفسر لماذا اختار أردوغان – على حد زعم كيليجدار أوغلو – الاذعان «لأوامر» واشنطن بعد تسع سنوات من المناكفة والرفض لها، ابتداء من الموقف التركي من غزو العراق الى رفض اسقاط النظام السوري عام 2005 بعد اغتيال رفيق الحريري، وأخيراً التصويت في مجلس الامن ضد قرار فرض عقوبات دولية على ايران، ورفض أي تسوية مع اسرائيل لا تتضمن الاعتذار الرسمي عن حادث سفينة مرمرة (هنا يمكن استثناء الموافقة التركية على تركيب رادارات الدرع الصاروخية على الاراضي التركية بعد فترة طويلة من الرفض من خط الخلاف مع واشنطن في السياسة الخارجية). لو أن داود أوغلو كان ينقل فقط رسائل اميركية الى دمشق خلال مساعيه في الاشهر الاولى من اندلاع الاحتجاجات – كما نقل كيليجدار أوغلو عن تصريحات سابقة للرئيس السوري بشار الاسد – فلماذا إذاً وافقت القيادة السورية حينها على خريطة طريق تركية بعد اجتماع بين الاسد وداود أوغلو استمر 6 ساعات ونصف الساعة؟ ولماذا طبقت دمشق الاصلاحات التي اقترحتها أنقرة لحل الازمة، ولكن بعد تأخير دام ستة أشهر نزف خلالها الكثير من الدماء؟ لكن، لا يمكن التعليق كثيراً على النقطة الثانية التي جاء على ذكرها كيليجدار أوغلو وهي خطابات أردوغان وتصريحاته النارية المتوعدة والمهددة والتي اصبحت جزءاً لا يتجزأ من سياسته، والتي تحمل أو تعكس في شكلها وصياغتها - في كثير من الاحيان - لوناً من شخصية هذا الرجل أكثر من انتمائها للغة الخطاب الديبلوماسي التقليدي. ولعلها تعطي السياسة الخارجية المقصودة أبعاداً مبالغاً فيها وغير مقصودة، ما دفع المراقبين الاتراك الى القول إن هذه الخطابات موجهة أصلاً الى الداخل التركي أكثر من استهدافها الخارج الدولي، ضمن اطار تجيير نجاحات السياسة الخارجية لمصلحة زيادة أصوات الناخبين، وهو ما حدث بوضوح أثناء الحملة الانتخابية لحزب أردوغان في الانتخابات البرلمانية الاخيرة العام الماضي والتي لم تغب عنها سورية. انتقادات عربية في المقابل كانت هناك انتقادات من أطراف عربية قالت إن تركيا «خذلت» المعارضة السورية وأعطت من الوعود ما ليس لها القدرة على تحقيقه، وإن عدم ردها على اسقاط الطائرة يعني عدم وجود نية حقيقية لتدخل عسكري وإن بتفويض دولي، من باب أن «كيف لمن لا يثأر عسكرياً لمقتل جنوده أن يتحرك لدعم معارضة أجنبية!!» وهناك من استشهد بما حدث ليقول إن تركيا أسد من كارتون له صوت لكن ليس له مخلب أو ناب. هذه الانتقادات مرتبطة أيضاً بموضوع الاسراف في التصريحات والوعود والقراءة المتعجلة وغير الكاملة للمشهد، اذ كان على أنقرة ان تدرك منذ البداية أن روسيا ستقف هذا الموقف الداعم للرئيس الاسد وستستخدم الفيتو في مجلس الامن، لأنها تخشى من وصول نار الربيع العربي الى حدودها، خصوصاً اذا ما كان لهيبها اسلامي الطابع والهوى، وأن تستشف أن الادارة الاميركية غير متشجعة لمغامرة عسكرية جديدة في المنطقة وأن الناتو والاتحاد الاوروبي ليست لديهما النية أو القدرة المالية للتدخل، الى غير ذلك من مؤشرات كانت كلها تشير بوضوح الى عدم امكانية شرعنة التدخل العسكري في سورية. حتى الدعم الذي قدمته تركيا للمعارضة السورية سياسياً ولوجستياً كانت له نتائج عدة منها السلبي ومنها الايجابي، فاحتضان المجلس الوطني السوري ساعد في توحيد جزء كبير من المعارضة وتقديمها للمجتمع الدولي على أنها كيان وجسد، لكنه في الوقت نفسه جعل المجلس متهماً بأنه تابع في كثير من سياساته لتركيا وللاخوان المسلمين، وهي سمعة باتت منتشرة لدى كثير من القوى الدولية والاقليمية وتحولت الى قناعة. كما أن احتضان تركيا للمنشقين العسكريين وضعها تحت تهمة المسؤولية عن تهريب السلاح الى الجماعات المعارضة المسلحة، التي، وان كانت عملياتها العسكرية هي الامل الوحيد الذي تبني عليه المعارضة آمالاً لاسقاط النظام، فإن انتشار السلاح واختلاف الجماعات المسلحة وعدم تنظيمها والتنسيق بينها بات يشكل هاجساً أمنياً لدى السوريين، مع ازدياد عدد التقارير الاممية التي توثق انتهاكات بعض هذه الجماعات المسلحة لحقوق الانسان والحديث عن تسلل عناصر من القاعدة بينها. وبالعودة الى حادث اسقاط الطائرة فالواضح انه رسالة سورية الى أنقرة، إما رداً على دور تركي مزعوم بتنفيذ عملية انشقاق احد الطيارين السوريين الى الاردن والعمل على انشقاق مجموعات عسكرية اخرى وتأمين ملاذ آمن لهم ولعائلاتهم على الاراضي التركية، أو محاولة لجر تركيا الى نزاع مسلح يصدر الازمة السورية الى بعد آخر. ومهما تكن الرسالة السورية فإن تركيا اختارت أن تشد على جرحها وأن لا تنجر الى فخ النزاع المسلح في موقف يسجل لها ولحكومتها التي استطاعت أن تحشد دعماً دولياً لها خلال 48 ساعة، في حزم وثبات تجلياً في تصريحات الرئيس عبدالله غل. ويثبت أن الصمت – أو الهدوء - أحياناً يمكن أن يكون أقوى وأهم من أية حماسيات، وهو أشبه بموقفها بعد عمليات حزب العمال الكردستاني الاستفزازية والدموية صيف عام 2007 والتي كان الهدف منها جر الجيش التركي الى شمال العراق ونسف خط المصالحة بين أنقرة وأربيل. ولعل المنطقة مدينة لتركيا – بين عدة عوامل - بما هو متوافر حتى الآن من استقرار، فلو أن سياسة تركيا الخارجية لم تكن على هذا النحو من الترفع عن الصغائر والمغامرات، لكانت الحرب على ايران بحجة برنامجها النووي، أو الحرب المذهبية بحجة الاستقطاب الطائفي، قد بدأت منذ سنوات وأدخلت المنطقة معها في أتون أزمة أكبر من تلك التي فجرها غزو العراق. وعلى رغم ذلك فإن المؤشرات تؤكد أن حكومة أردوغان ستجد الطريقة الانسب للرد على اسقاط طائرتها، وتكفي مراقبة الاحداث على الارض في سورية وعلى الحدود التركية لاستنباط ذلك، فالأمر ما عاد مسألة سياسة خارجية يمكن لنا أن ننتقدها أو ان نختلف معها، الامر تحول الى قضية ثأر بين حكومة أردوغان ونظام الاسد، واذا كانت أنقرة اعتبرت سابقاً أن تدهور الاحداث في سورية يؤثر على أمنها بشكل يشرعن تدخلها في الملف السوري، فإن هذا الثأر سيطلق يدي أنقرة في الملف السوري أكثر من ذي قبل.