يواصل زياد غرسة سفره في متون «المالوف التونسي»، باحثاً في خباياه ومؤدّياً درره وحافظاً له من الزوال والاندثار. غرسة نشأ وترعرع في كنف عائلة فنية بامتياز، فأبوه شيخ المالوف الفنان الراحل الطاهر غرسة. وهو تشبّع من ينابيع الموسيقى التقليدية في واحدة من أهم المؤسسات الموسيقية العربية ألا وهي «الرشيدية» أو المعهد الرشيدي الذي عاش فيه غرسة ردحاً من الزمن، طالباً ثم مديراً مسؤولاً عنه، قبل أن يغادره ويؤسس بصحبة عدد من الفنانين والمثقفين جمعية تصبّ في السياق الفنّي نفسه وتسعى للحفاظ على هذه الموروث. ربما كان زياد محظوظاً أنه الابن المدلل ل «عم الطاهر» كما أنه ظلّ أيقونة «الرشيدية» لسنوات طويلة، حتّى حمل لقب والده وبات اليوم «شيخ المالوف» لما يكتسبه من دراية بهذا الفنّ ولما حفظ منه وأضاف عليه. أسس زياد بصحبة عدد من المولعين بالتراث الموسيقي «جمعية قرطاج للمالوف والموسيقى التونسية» التي انطلقت في تنظيم سهرات موسيقية على المسرح البلدي في العاصمة التونسية، بمعدل حفلة كل شهر. في الحفلة الأخيرة التي نظمتها الجمعية، حضر جمهور «المالوف» في سهرة تواصلت لأكثر من ساعتين ونصف الساعة، غنّى فيها زياد غرسة برفقة فرقته الموسيقية باقة من أجمل الأغاني والموشحات التونسية التي دأب الجمهور على متابعتها منذ انطلاق موسمها الثقافي الثاني خلال الشهر الماضي. جمهور آمن بقيمة المحافظة على التراث وبخاصة الموسيقيّ منه الذي يمثّل الهويّة التي يسعى البعض إلى طمسها اليوم في تونس. جمهور حضر وسيحضر إلى هذه العروض التي تمثّل سداً منيعاً في وجه الردّة الثقافية والفنيّة في المدينة الخضراء. ويدرك القائمون على الجمعية أنّ مسؤولية الحفاظ على هذا التراث، ليست بيد مؤسسات الدولة فقط، بل هي فعل مشترك وجهد مدني متواصل. وكان غرسة أكد خلال الحفلة أن الإرهاب «لا يمكن مقاومته إلا بالفن وبكل الأشكال الثقافية الممكنة، حتى يظل الوطن آمناً...». ومن أجل هذا الهدف والفكر التشاركي ولدت هذه الجمعية التي يترأسها محمد الأمين الكوّاش، وتضمّ نخبة من المثقفين على الساحة على غرار الشاعر علي الورتاني والفنانة ليلى حجيج والممثل رؤوف بن عمر. وكان برنامج السهرة ثريّاً ومنوّعاً، انطلق ب «بشرف النّيرز» ليقدم زياد غرسة «استخبار» على آلة العود التونسي في طبع «الحسين». وقدم من موشّح «يا بديع الحسن أهيف». كما أدى «يا ناس جرت لي غرايب»، و «قوموا ننظروا»، و «لقد ضاق عيشي»، و «ما بيده قضية»، و «قلت يا حبي تلطّف»، وختم الحفلة بموشح «من ظفر بالحكمة». أما الجزء الثاني فغالبيته كانت من نصيب المجموعة الصوتية التي غنت من كلمات محمود بورقيبة وألحان محمد التريكي أغنية «زعمة يصافي الدهر»، وبتوزيع موسيقي جديد غنّت الشابة آية دغنوج أغنية «يا خيل سالم»، بصوت متمكّن. ومن كلمات الشاعر الغنائي حاتم القيزاني قدّم زياد غرسة من ألحانه أغنية وطنية جديدة بعنوان «يا دم خويا» التي أهداها إلى أرواح شهداء الوطن. وعلى رغم مسحة الحزن التي طغت على كلمات هذا العمل الفني الجديد الذي تفنّن زياد في صَوغ لحنه، إلا أن الجمهور طالب غرسة في نهاية السهرة بأغانٍ يغلب عليها طابع التفاؤل. فغنّى «فراق غزالي» و «عرضوني زوز صبايا» و «الواشمة». وبطلب من الجمهور أيضاً أدّى أغنيتي «انزاد النبي» و «المقياس». ويعود غرسة إلى جمهوره في حفلة يحييها الأحد 8 كانون الأول (ديسمبر) في المسرح البلدي في العاصمة.