الثورة السورية مسألة عالمية. هذا ظاهر اليوم من انشغال العالم بها أكثر من أي شأن آخر. لكن هذا الانشغال مظهر للصفة العالمية لصراعنا، ولا يستنفدها. في موقعها وفي تكوينها البشري وفي تاريخها، سورية عالم مصغر، بشرياً وتاريخياً وثقافياً وجغرافياً، في منطقة هي الأكثر تدويلاً في عالم اليوم. لا تصنع منطقتنا العالم اليوم، هي أقرب إلى صنيعة له منذ نحو قرن ونصف قرن، لكنها لذلك مرآة له على نحو ما يكون المخلوق مرآة الخالق. حال سورية التعيسة اليوم مرآة لعالم اليوم. غير أن الصراع السوري عالمي بمعنى آخر، بمعنى يحيل على الكون والفساد والهيولى والعناصر والصور، الخاووس. ظاهرة انهيار الإطار الوطني للصراع السوري بدءاً من نقطة زمنية ربما تقع في منتصف مساره إلى اليوم. تثقبت الجغرافيا السورية واختلط الداخل بالخارج. وتفكك الراهن السوري وامتزج الحاضر بالماضي. وتداعى عالم السوريين وتداخلت سماؤه بالأرض. لدينا اليوم كثير من الخارج، وكثير من السماء، وكثير من الماضي، تتسبب في انهيارات جيولوجية في اجتماعنا وسياستنا وتفكيرنا وشروط عيشنا، وتنثر حاضرنا الاجتماعي والوطني بين مواض تنهش بعضها. لم يعد لنا شكل. وظهرت في نطاقنا كائنات لا شكل لها. غير الغول الأسدي الذي يحتل الداخل منذ عقود، لدينا الغول الجهادي الذي لا يرى لنفسه نسباً غير السماء، ولدينا ما لا شكل له من تأثير خارجي، ربما كانت إسرائيل، وهذا اسم لغول شهير، صاحبة قول فصل فيه. لذلك، ما يجري في سورية لا تناسب لمقاربته إلا جزئياً لغة التحليل السياسي والاجتماعي، أو لغة الجيوسياسة والعلاقات الدولية، بل ربما لغة اللاعقل والقيامة، أو لغة التشكل وإعادة التشكل، حيث كل شيء سائل وهيولى بلا صورة، وحيث الزلازل والانهيارات والعنف والهول، وظهور كائنات وتمازج كائنات وفناء كائنات. هذا ليس صراعاً سياسياً، بل هو أزمة أسس أو أزمة تأسيسية. وهي إما تغير تغيراً جوهرياً، أو تجرى هندسة الأمور بحيث يتعفن البلد بلا نهاية، أو يتشكل في صورة «مفشكلة»، لا تتعافى ولا تموت. ليس تفجر الأزمة الأساسية رغم فداحتها وكلفتها الكبيرة من الضحايا أمراً يُراد تجنبه دوماً. إنها إذ تعني إعادة تشكل واسعة وظهور نظام جديد للقيم، تمثل فرصة لتجدد الحياة أو لحياة جديدة. ربما يتحقق ذلك بكلفة ودمار كبيرين، لكن سورية بحاجة إلى بداية حقيقية. التعفن هو ترك النهاية تتجرجر إلى ما لا نهاية ولا تنفتح على بداية جديدة. والتعامل العالمي مع استخدام سلاح القتل الشامل في الغوطة في آب الماضي يقول إن هناك شيئاً ما عفناً في رأس هذا العالم، أشياء كثيرة عفنة. من يستخدم سلاح القتل الشامل إنما يقتل الناس قتلاً شاملاً، يقتل جميع الناس. إعادة تأهيل قاتل الجميع بعد الجريمة تعني أن العالم لا يعترض على الجريمة، بل على مجرمين بعينهم، تعني تعفن العالم تعفناً شاملاً. هل هذا من باب «النق» على العالم؟ بل يحركه إدراك بأننا مندرجون بعمق في هذا العالم أو النظام العالمي، وأنه لطالما كافأ هذا النظام وشجع التطورات التي تناسبه في مجالنا، سراً وعلانية، وعاقب ما لا يناسبه، بما في ذلك بالحرب، بحيث لا يمكن فهم شيء من أحوالنا في أي وقت معاصر من دون النظر في جملة التشابكات المحلية - العالمية المتكونة عبر عقود من الزمن. نحن جزء من العالم والعالم جزء منا، وليس صحيحاً قطعاً أن أمورنا سارت هذ المسار البري المشهود تحققاً لممكنات ذاتية حصراً، كانت باطنة في الداخل الاجتماعي والسياسي السوري. التعفين العالمي لصراعنا عبر حماية القاتل ينقل الأزمة الأساسية إلى مستوى عالمي، بقدر ما إنه يجعل من العالم مسألة سورية (وكان على الدوام مسألة فلسطينية). وما دامت الثورة السورية مسألة عالمية، وما دام العالم ظهر قوة تعفين وفساد لصراعنا، وما دام العالم ذاته يفقد شيئاً من شكله حين يتدهور شكل سورية إلى هذا الحد، فإن هذا يدفع نحو إعادة النظر في شكل العالم. أي نحو التجديد الثقافي والثورة الثقافية. في مواجهة الخاووس، الثقافة سياسة أساسية، صناعة للأمل.