قد يكون الملمح الجوهري للصراع السوري في نصفه الثاني، أي منذ أواسط صيف 2012، هو انهيار الإطار الوطني للصراع، وتالياً اختلاط ما فوق الوطني وما دون الوطني فيه. منذ وقت مبكر زج النظام «الشبيحة» في مواجهة الثورة، تحت اسم «اللجان الشعبية»، هذا قبل أن تجرى مأسسة الظاهرة بإشراف إيراني في «قوات الدفاع الوطني» في مطلع هذا العام. قبل ذلك كان استعان بعون مالي تكنولوجي وبشري إيراني، لا ينضبط بما هو مألوف في العلاقات بين الدول المتحالفة، ويتفوق في بعده العاطفي وغير العقلاني حتى على نسق العلاقة الأميركية - الإسرائيلية. وهو ما تمثل بصوة فظة في صفقة تبادل الأسرى الشهيرة مطلع 2013، حيث أفرج النظام عن أكثر من ألفي سوري مقابل 48 إيرانياً كانوا في أسر الجيش الحر في غوطة دمشق. معلوم بعد ذلك أن عسكر «حزب الله» اللبناني متدخل في الصراع السوري بتمويل إيراني، ومن ضمن تخطيط طهران السياسي والاستراتيجي. والأرجح أن التدخل المباشر يسبق بشهور على الأقل موعد الإعلان عنه في ربيع هذا العام. تتوحد هذه المؤشرات الثلاثة في دلالتها على تداعي الإطار الوطني للصراع لمصلحة ما دون الدولة من روابط عضوية، أو ما وراءها من دول ومنظمات. ويصعب عدم ملاحظة الصفة فوق الوطنية الجامعة بين الطائفي الداخلي والشركاء الإقليميين للنظام. والأساس في انهيار الإطار الوطني هو العنف المهول الذي مارسه النظام منذ البداية ضد المجتمع السوري وقطاعاته الثائرة، مما لا يحتمل أن يمارس مثله عدو خارجي. يعرف السوريون مدى الوحشية التي تتعامل بها إسرائيل مع الفلسطينيين، ولا يستطيعون الامتناع عن ملاحظة أن ذلك العدو قلما بلغ في التعذيب والحصار والقتل والقصف، وصولاً إلى استخدام السلاح الكيماوي، المدى الذي بلغه النظام الأسدي. وبمحصلة مزيج العنف والروابط الخاصة يمكن القول إن نظام بشار الأسد كان الرائد في تحطيم الإطار الوطني للصراع. وسيكون استنتاجاً متأخراً جداً عن وقته، وإن كان لا يزال يغيظ كثيرين، القول إننا حيال نظام غير وطني جوهرياً. من جهة طيف الثورة والقوى المنازعة للنظام أيضاً، ظهرت آثار انهيار الإطار الوطني تدريجاً. أبرز تجسداتها ظاهرة الجهاديين، وهم يصدرون في تكوينهم البشري، وفي مثالهم الاجتماعي والسياسي، عمّا يتجاوز الإطار الوطني أو لا ينصبط به. يتكلم الجهاديون على مسلمين فقط، ويُقصد بهم السنّيون حصراً، ومن السنّيين من يوافقون توجهاتهم وليس عمومهم. سورية ليست إطاراً للتفكير ولا العمل هنا. سهّل من تكاثر الجهاديين انهيار الجغرافية السورية وتثقب حدود البلد، واختلاط الداخل بالخارج بلا ضوابط. استفاد من الأمر الجهاديون، وكذلك على الأرجح أجهزة استخبارات كثيرة، فضلاً عن إعلاميين متنوعين، وناشطين سوريين بأعداد كبيرة، يشاركون في أنشطة متنوعة بدورها، تنظمها جهات سورية وأجنبية، ولا يكاد يكون ثمة شك في أن لبعضها أجندات خاصة مرتبطة بأجهزة دول أجنبية. في المقابل، ترتسم حدود داخل سورية يصعب عبورها. أسهل بكثير العبور من بعض مناطق البلد نحو الشمال التركي أو الشرق العراقي أو الجنوب الأردني من التحرك من مكان إلى آخر داخل سورية. لزمتني أيام طويلة للتنقل من مناطق دمشق إلى الشمال السوري، وساعات فحسب للوصول إلى بلد مجاور، ومن دون وثائق سفر. محصلة انهيار الإطار الوطني للصراع السوري أنه لم يعد صراعاً سورياً محضاً. إنه اليوم صراع مركّب، تختلط فيه الثورة الاجتماعية مع الحرب الأهلية، مع صراع إقليمي ودولي. وهو صراع مركّب أيضاً من حيث أن لدينا في هذا النصف الثاني من زمن الثورة ثلاثة أو أربعة أطراف، وثلاثة أو أربعة مشاريع، لا طرفين ومشروعين فقط. مشروع الثورة وإسقاط النظام الأصلي، والمشروع الجهادي، والمشروع الكردي، وطبعاً مشروع النظام الذي لا يتعدى استعادة السيطرة وإدامة الملك الأسدي. وحده المشروع الأخير يبدو موحداً، فيما تتخلل الأطراف والمشاريع الأخرى تناقضات وصراعات، تسبغ على المشهد السوري تعقيداً بالغاً، وسيولة بالغة أيضاً. لا شيء يشبه اليوم حال البلد في مطلع هذا العام بالذات، ومن باب أولى في نصف زمن الثورة الأول. لقد شهدت سورية في عامين ونصف العام ما لم تشهد مثله في نصف قرن سابق. ولقد تغير كل السوريين، تغيرت أماكنهم (ثلث السكان) وأعمالهم وعلاقتهم وتصوراتهم عن أنفسهم وعن غيرهم وعن البلد. ولا ريب في أن سنوات طويلة ستنقضي بعد انطواء هذا الفصل الأول الطويل من الصراع قبل أن نستوعب مجمل التغييرات التي جرت في بلدنا ومجتمعنا، وفي أنفسنا. ويتعدى انهيار الإطار الوطني النطاق السياسي والجغرافي إلى النطاق الزمني أيضاً. ليست هناك زمنية وطنية موحدة أو متقاربة اليوم. لدينا من يعيشون زمناً أصلياً أو تأسيساً لا يتغير، يستعيدون فيه بواكير الإسلام المفترضة، ومن يعيشون زمن السلطة الذي هو حاضر أبدي متجانس، ومن تنشدّ أنظارهم إلى مستقبل يبدو اليوم نائياً وضبابياً. في كل ذلك ما يوحي بأننا حيال عملية إعادة تشكل واسعة، زوال الشكل السابق (المكاني والزماني والاجتماعي والسياسي والنفسي) مروراً بانعدام الشكل، وربما وصولاً إلى شكل جديد. الإطار الوطني الذي انهار يشمل أيضاً مدركات التحليل السياسي والاجتماعي التي توافقه: الدولة والوطن والشعب والمجتمع والمواطنون والسياسة والحكومة والأحزاب السياسية... المدركات التي تشكل بمجموعها «العقل»، أو «الوعي الوطني». انهار الوعي، وظهر من تحته اللاوعي أو اللاشعور على السطح. واللاشعور لا شكل له، عالم اختلاط وفوضى، ربما يتركّب فيه رأس امرأة على جسم أسد على أجنحة نسر على قوائم فرس. إن تشكلات مثل «داعش» («الدولة الإسلامية في العراق والشام») هي أشبه بكائنات اللاشعور هذه، وهي وليدة وقوع المجتمع السوري في قبضة الجنون واللاعقل على يد النظام الأسدي وحلفائه، وتمام تحول سورية إلى ساحة مكشوفة، إلى لا وطن. هناك واحد من منهجين فقط لاستعادة عقلنا وترميم إطارنا الوطني، الاجتماعي والسياسي والجغرافي والزمني. الأول هو الاستمرار في ضرب الجسم الاجتماعي السوري لطرد الشياطين الساكنة فيه. هذا هو المنهج الأسدي في العلاج الوطني. هناك منهج آخر، التحرر من شرط المجتمع المعنّف، وتخليص المعنَّفين من قبضة العنيف العام. ونرى أن هذا وحده ما يمكن أن يضع السوريين في وضع أفضل لمواجهة أي معنِّف جديد، أو أي شيطان انبعث من جسده أو من لا شعوره المكشوف. أما بقاء العنيف العام لمواجهة العنيفين الجدد فلا يمسّ في شيء وضع المجتمع المعنّف، وليس من المؤكد حتى أنه يعالج أعراض المرض، مثل «داعش». لطالما لاعب المشعوذ الأسدي شياطين، يعرض اليوم نفسه كمحارب لهم، بغرض أن يستمر في السيطرة على الجسم السوري المجهد. يقول النظام إننا مجتمع مجنون، وإنه وحده من يقدر على شفائنا من الجنون، ويطالب بتجديد انتدابه الدولي على البلد استناداً إلى هذه الرسالة الطبية. لكن هذا الطبيب محتاج إلى مرض سورية أكثر حتى من حاجة المريض السوري إلى الشفاء. أول شفاء سورية هو خلاصها من هذا الطبيب القاتل. * كاتب سوري