لم يعد مسعود بارزاني مضطراً إلى لقاء الأكراد سراً في تركيا. أصبح زعيماً ورئيس «دولة» تعترف بها أنقرة، وتسعى إلى تبادل المصالح معها على قاعدة الاحترام المتبادل، ولو على حساب علاقتها ببغداد. أنقرة قادرة على اختراق العراقيين العرب والتحالف مع جزء منهم ضد الآخر باسم المذهب والطائفة. أما الأكراد الملتفون حول زعاماتهم والمتمسكون بقوميتهم، على رغم بعض الخلافات، فمن الصعب اختراقهم. على هذا الأساس بنت حكومة أردوغان علاقاتها مع العراق، خلال الاحتلال الأميركي وبعده. سعت إلى أن يكون لها تأثير قوي في بغداد. نجحت في استغلال الوضع. دعمت شركاتها التي تستثمر بلايين الدولارات في البنى التحتية والنفط، وفي تحويل العراق إلى مستورد رئيسي لمنتوجاتها. هذا كان أيام شعار «صفر مشاكل» مع الجيران. وأيام شهر العسل مع سورية، والحلم بفتح البحار الأربعة على بعضها، وإحياء طريق الحرير. لكن سرعان ما أيقظها الحنين إلى العثمانية من هذا الحلم المستقبلي الجميل. وتحول «صفر مشاكل» إلى صفر أصدقاء، عدا الصداقة مع إسرائيل والولاياتالمتحدة (تحالف العظماء). في الشهرين الأخيرين بدأ أردوغان تغيير سياسته المعادية للعراق. أسرع الخطى للمصالحة مع الأكراد، وما دعوة بارزاني إلى ديار بكر، ودعوة المالكي لزيارة أنقرة سوى مؤشر إلى هذا التغيير. واقع الأمر أن أردوغان، مثل كثيرين، كان يراهن على استثمار المأساة السورية لمصلحته في المشرق. لكن الأمور سارت عكس ما يشتهي. انقلب عليه الإسلاميون الذين دربهم وسلحهم وسهل مرورهم إلى سورية. اكتشف أن أطروحات الظواهري، وليست أطروحات داود أوغلو مرجعهم الفكري. وأن الدولة الإسلامية التي يدعون إلى إقامتها لا تشبه السلطنة إلا في الاستبداد والتخلف. والأهم من ذلك أنه لا يستطيع إدارة معاركهم اليومية. وسيرتدون عليه ويشيعون الفوضى الطائفية في تركيا. وأن «المعارضة المعتدلة، أي «الائتلاف الوطني» ليس له قاعدة شعبية في الداخل. أما حلفاؤه الأساسيون، أي «الإخوان المسلمون»، فليسوا سوى جزء من تحالف المعارضة، ووصولهم إلى الحكم في دمشق دونه حروب أهلية طائفية ستمتد حكماً إلى «عقر دار الخلافة» في إسطنبول، وقد بدأت ملامح ذلك بالظهور في أنقرة والإسكندرون ومناطق أخرى. والأهم من ذلك أنه فشل في رهانه على «الإخوان»، ممثلين ب «الحزب الإسلامي» في العراق. وسقط حلم أردوغان في مصر، بعد فشل «الإخوان المسلمين»، وتعثر حكمهم في تونس وغرق ليبيا في الفوضى، ولم يعد أمامه سوى التراجع خطوتين إلى الوراء استعداداً للمرحلة المقبلة. مرحلة ما زالت معالمها غير واضحة، فحليفه الأكبر، أي الولاياتالمتحدة، تعيد كل حساباتها في المنطقة. تسعى إلى الانفتاح على إيران. وتتفق مع روسيا على إنهاء الحروب في سورية، وتخوض معها حوارات مستمرة لتقاسم النفوذ. لم يبق أمام السلطان الجديد سوى إعادة ترتيب أوراقه فقدم بعض التنازلات إلى الأكراد. تخلى عن شيء من عنصريته علّه يتحاشى حروبهم الداخلية المستمرة من ثمانينات القرن الماضي، خصوصاً أنهم انفتحوا الآن على سورية. هذا في اللعبة الإستراتيجية البعيدة المدى، أما على مستوى السياسة الداخلية فأردوغان يستعد لخوض الانتخابات، ويحتاج إلى سكان الأناضول الذين شكلوا في السابق الخزان البشري لحزبه، منذ أن كان نجم الدين أربكان زعيمه، وقبل أن يتغير اسمه. يخشى الأكراد أن يكون الاحتفاء ببارزاني في هذه المنطقة ومد السجادة الحمراء لاستقباله جزءاً من لعبة انتخابية يجيدها «الإخوان المسلمون»، وسرعان ما يتنكرون لها بعد «تمكنهم» ووصولهم إلى السلطة.