إنها الأسئلة الأزلية الشائكة التي ما برحت تشغل الأذهان منذ ولادة الأوطان والحروب معها: لمن نعطي صوتنا حين يصبح من الواجب علينا أن نختار بين الحب والوطنية؟ والوطنية مهما كان صدقها ومهما كانت درجة الاندفاع من أجلها، هل تراها قادرة على تبرير قتل الأخ أخاه، أو خيانة الحبيب، أو حتى التضحية بالنفس؟ هي أيضاً الأسئلة المقلقة التي لا شك في أن كان الكاتب الفرنسي بيار كورناي يطرحها على نفسه أواخر ثلاثينات القرن السابع عشر، حين كتب مسرحيته «هوراس»، لتمثل على الفور وتلقى نجاحاً كبيراً وضعها في نظر كثر في موقع متقدم عن مسرحيته الأشهر «السيد». ذلك أن مسرحية «هوراس» يمكن اعتبارها، في نهاية الأمر، مسرحية إشكالية، تطرح واحداً من تلك المواضيع الإنسانية الخطيرة من دون أن توجد حلاً له، حتى وإن كانت تبدو في الظاهر مرجّحة لكفة مَخرج على كفة مَخرج آخر. إذ حتى وإن كان الجمهور الذي لطالما شاهد «هوراس» وأحبها، وافق دائماً على النهاية التي تبرئ هوراس من الجريمة التي ارتكبها، باسم الوطنية، فإن من المعروف أن ثمة شيئاً من القلق يعتري النخبة المتقدمة من الجمهور إزاء هذه النهاية. والحقيقة أن هذا القلق يزداد كلما مر الزمن، وكلما صارت المواقف المهيمنة على المسرحية أكثر قدماً وأقل تساوقاً مع العصر. ومع هذا، يمكن القول إن كورناي حين كتب مسرحيته هذه لم يكن يعيش قلقاً «وطنياً» أو شخصياً ما. هو كتبها في نهاية الأمر لتمجيد حس المواطنة لدى بطله، تشهد على هذا تلك العبارات القوية التي وضعها على لسان هوراس العجوز وهو يدافع عن ابنه هوراس الشاب أمام المحكمة الملكية، في الوقت الذي كان هذا الابن يحاسب تحديداً على قتله شقيقته كاميليا، ابنة المدافع العجوز. بالنسبة إلى هذا الأخير كل شيء يمكن القبول به على مذبح الوطنية، بما في ذلك قتل الأهل والأبناء، لأن «مصلحة الوطن ترجح على مصلحة الأفراد». غير أن المشكلة الكأداء تكمن هنا في واقع أن كاميليا لم تكن خائنة للوطن... كل ما في الأمر أنها حزنت على خطيبها، إذ قتله أخوها في صراع بين مدينتين هما روما وآلبا، واتهمت أخاها بأنه قاتل مجرم، تحديداً لأنه لم يقتل خطيبها إلا غيلة وبخدعة أتقنها خلال النزال. أما النزال فهو ذاك الذي اتفقت المدينتان المتصارعتان للفوز بالهيمنة، روما وآلبا، على أن يخاض بين ثلاثة مقاتلين من هنا وثلاثة من هناك، حقناً لدماء جنود الطرفين... وذلك بدلاً من المعارك الدموية الجماعية بينهما. هكذا، تقع القرعة على ثلاثة من آل هوراس وثلاثة من آل كورياس ليتصارعوا في ما بينهم وتكون الغلبة للمدينة التي ينتصر أبناؤها الثلاثة. وإذ يتحمس الرجال لخوض المعركة، تندب النساء ذلك الحظ التعس ويتوسلن الرجال ألا يفعلوا ذلك (وفي لوحة شهيرة رسمها الفرنسي جاك لوي دافيد عام 1784 في عنوان «قسم آل هوراس»، تصوير رائع لموقف النساء ولموقف الرجال من القضية نفسها). والحال أن كورناي يبدأ المسرحية بسابين زوجة هوراس، التي هي في الوقت نفسه شقيقة آل كورياس، حيث نراها تندب حظها وتشكو مما سيحدث، خصوصاً أن شقيقة زوجها كاميليا مخطوبة لأخيها أحد أبناء كورياس، ما يجعل العائلتين قريبتين بالنسب، حتى وإن اختلف انتماؤهما المديني. وتتكشف حدة الصراع على أية حال في الفصل الثاني، حين يعم نبأ اختيار شبان العائلتين ويروح هوراس العجوز، البطل السابق، يحرض أبناءه الثلاثة على خوض القتال من دون تردد، وببطولة للدفاع عن شرف المدينة ومكانتها، حتى ولو كان أنسباؤهم الضحايا. وإذ يطالعنا في جانب آل كورياس، خطيب كاميليا وهو يحاول أن يتنصل من الأمر كله، نجد في المقابل هوراس الشاب يندفع متحمساً لخوض القتال. هكذا، إذ تبدأ المعركة، التي لن يشاهدها الجمهور، تأتي خادمة آل هوراس، جوليا، التي تراقب ما يحدث لتروي كيف أن اثنين من آل هوراس قتلا بعد قليل من بدء المعركة، فيما فر الثالث - الذي سيتبين لنا أنه هوراس الشاب نفسه - ولكن، سرعان ما سيتبين أن فرار هوراس لم يكن سوى خدعة حيث إنه، إذ أصيب بجرح، توجه إلى حيث استدرج شبان آل كورياس الذين راحوا يطاردونه آملين القضاء عليه، إذ ضعف وصار وحيداً، لكنه بفضل حيلته تمكن من القضاء عليهم واحداً بعد الآخر، وفي شكل من المؤكد أنه يخلو من البطولة. والحال أن هذا ما ستتهمه به في الفصل التالي شقيقته كاميليا، التي ترى أنه كان في إمكانه أن يوفر خطيبها، فقتله بجبن. وهي إذ تصرخ بأخيها في الفصل الرابع بأنه مجرم قاتل لا قلب له، تثير غضبه فلا يتورع عن قتلها هي الأخرى، إذ اعتبر موقفها خيانة للمدينة وعاراً على الانتصار الذي حققه. وبقتل كاميليا ننتقل إلى الفصل الخامس حيث نجد هوراس الابن يواجه هوراس الأب الذي يعاتبه على ذلك العنف المجاني الذي مارسه، خصوصاً على قتله أخته. لكن الشاب يدافع عن نفسه مؤكداً أنه ما فعل ذلك إلا باسم الوطنية، ومعلناً أنه مستعد، على أية حال، للمثول في حضرة الملك والدفاع عن موقفه. وإذ يمثل هوراس أمام الملك، فإن هذا يبرئه، على رغم أن ما اقترفه جعله إلى حد كبير مكروهاً من كثر... وكان الفضل في التبرئة لفصاحة الأب العجوز الذي يركز في دفاعه على كون ابنه هوراس بطلاً منتصراً، شرّف المدينة وحقق لها التفوق، قائلاً إن هذا يعطيه شيئاً من الحصانة العابرة، خصوصاً أن الشعب نفسه يبدو ممتناً للبطل وغير آبه بما اقترف، طالما أن النتيجة أتت لمصلحة الوطن نفسه... هكذا، بفضل فصاحة الأب ينتصر «الحس الوطني» على قيم العدل والرحمة والأخوة، وتنتهي المسرحية من دون أن ندري تماماً ما هو الموقف الحقيقي لمؤلفها مما حدث ومما آلت إليه الأمور. استند بيار كورناي في كتابة مسرحيته هذه إلى قراءته تواريخ عدة لروما كتبها تيت - ليف وفلوروس، إضافة الى نص كتبه ديني الهاليكارناسي... ولكن، من المرجح أنه - أي كورناي - لم يكن مطلعاً على أعمال مسرحية حول الموضوع نفسه كان كتبها بيار آريتنات (1492 - 1556) ولوبي دي فيغا وبيار دي لودان وغيرهم، من الذين سحرتهم الحكاية دائماً، غير أن أياً منهم لم يهتم في نصه بإثارة الإشكالية الحقيقية التي استخلصها كورناي من هذا العمل... وهي إشكالية مكّن كورناي منها ابتكاره شخصية سابين التي حمّلها همّ القضية، وجعلها القطب النقيض لهوراس الأب، لتطرح تلك المعضلة العائلية من موقع إثارتها التناقض بين النزعة الوطنية والرحمة والأخوة، فيما تأتي شخصية الأب لتتصلب في الدفاع عن النزعة الوطنية والصلابة العسكرية التي يفخر الآن بأنه أورثها للابن الوحيد الذي تبقى له بعد أن انجلت المعركة. والحال أن مسرحية «هوراس» التي قُدّمت للمرة الأولى على مسرح «أوتيل بورغوني» الباريسي عام 1640، كتبها بيار كورناي (1606 - 1684) خلال مرحلة متوسطة من حياته وهي المرحلة التي تلت السجال الحاد الذي ثار حول مسرحيته «السيد» وحرص فيها على وحدة الزمان والمكان وعلى أن يستقي موضوعه من العصر الروماني مفضلاً الهدوء على الضجيج، الموضوعي والشكلي الذي كانت أثارته «السيد»، خصوصاً أن كورناي تزوج في ذلك العام نفسه وقرر أن يعيش بعض الهدوء. وربما ينبع من هنا ذلك الالتباس في موقف الكاتب من الأحداث، وهو التباس سنجده كذلك مسيطراً على نصف دزينة من مسرحيات مشابهة - ومعظمها روماني الموضوع - كتبها كورناي خلال الفترة التالية، ومنها: «سينا» أو «رأفة أوغسطس» و «بوليكتس» و «موت مومباي»، وصولاً إلى كتابته «رودوغون» التي تدور أحداثها بين سورية وفارس وكان كورناي يعلن دائماً أنها مسرحيته المفضلة. [email protected]