نشرت «الحياة» في ملحق تراث بتاريخ 7 أيلول (سبتمبر) الماضي مقالاً للكاتب عمر عبدالعزيز عمر، حول «حمامات دمشق العثمانية... همسات من أعماق الزمن»، وقد اعتمد الكاتب على ما يبدو على ملاحظات الحصني في كتابة منتخبات التواريخ في وصف الحمامات، مظهراً اشهر الحمامات واقسامها، ومعتبراً أن الحمام المكان الذي تخلع به المرأة همومها، إذ لا أماكن تذهب إليها المرأة سواء المسارح أو المقاهي. لكن المقال فيه تسرع وأحكام وغياب لدور الحمام في الثقافة اليومية، تجاهل للمصادر التراثية الخاصة بالحمامات، لكن المقال قد يوفر فرصة لتبادل الرأي حول مضمونه. وإذ سلمنا بما ورد في المقال، من غياب المرأة، وحضورها فقط في الحمام، إلا ان ذلك لم يُفسر، فالمطلع على النصوص التاريخية في الحقبة العثمانية يجد أن المرأة تحتجب في المصادر التاريخية في تلك الحقبة، وبخاصة كتب التراجم الدمشقية في العصر العثماني، كما يندر ذكر النساء في اليوميات الدمشقية وبخاصة عند البديري الحلاق ومحمد بن كنان الصالحي أو عند ابن الصديق، ويقتصر ذكر النساء على حوادث البغاء والفجور، ولكن المصادر لا تغفل المرأة بشكل كامل، فهناك مشاركة محدودة في الحوادث العامة، إلا أنها مشاركة لا يرقى ابرازها إلى المكانة التي أفردتها المصادر التاريخية المملوكية عن المرأة العاملة في التعليم والشيخات منهن، وهو ما يجسده نموذج السخاوي الذي أفرد أجزاء من كتاب الضوء اللامع للنساء الشيخات، أو ابن حجر العسقلاني في اشاراته الكثيفة عن النساء العالمات. لا تفسير واضحاً حتى اليوم لغياب المرأة من تراجم الحقبة العثمانية في دمشق، فلا نجد إلا حالات نادرة كأن يترجم المؤلف لأمة أو يذكرها ذكراً عابراً في معرض الحديث عن حياته، وهو نجده في كتاب التراجم أمثال نجم الدين الغزي والمحبي والمرادي وغيرهم. لكن غياب المرأة لم يكن يقابله الحضور في الحمام فقط، فالليل الدمشقي والحكايات والسمر وعادات أهل دمشق في السيران والتنزه لا يمكن أن تتم من دون المرأة، وهناك إشارات طفيفة في المصادر عن المرأة، وإذ سألنا عن المرأة سجلات المحاكم الشرعية وكتب الفتاوى فإن الصورة عنها تتغير ويكون الحضور أكثر ايجابية. المؤرخون وتأريخ الحمامات يذكر المؤرخون الدمشقيون الحمامات بشكل مفصل، فقد أشار ابن عساكر (توفي: 571ه/ 1175م)، إلى سبع وخمسين حماما. وذكر ابن شداد (توفي:684ه/ 1285م) في كتابه الأعلاق الخطيرة ما جاء عند ابن عساكر، وزاد عليها حتى بلغت خمسة وثمانين حماماً، وبلغت الحمامات عند أبي علي الأربلي (توفي: 726ه/ 1328م)، مئة وسبعة وثلاثين حماماً، وفي القرن العاشر الهجري، ذكر ابن المبرد (توفي: 909ه/1503م) في رسالته «عدة الملمات» مئة وواحداً وثمانين حمام، في دمشق وغوطتها(ابن المبرد، 1988: ص 36 و53). وفي العصر العثماني لقيت الحمامات اهتماماً من جانب الولاة، إذ يذكر معاصر ابن عبدالهادي، عبد القادر النعيمي الدمشقي (توفي: 927ه/ 1520م)، في كتابه الدارس في تاريخ المدارس ستة وثلاثين حماماً. أما محمد بن طولون الصالحي (توفي: 953ه/ 1546م) فذكر أحد عشر حماماً من حمامات الصالحية، وفي نفس الحي أشار ابن كنّان الصالحي (توفي:1153ه/1740م) عشرين حماماً إضافة إلى ثلاثة في المنازل. ومن أوجه عناية الولاة بالحمامات ما يشير إليه محمد أمين المحبي (توفي: 1111ه/1699م) من أن مصطفى لالا باشا «عمّر الحمام الموجود في سوق السروجية»(المحبي، [د.ت]: ج1، ص 18). وقد وصفه ابن كبريت عندما زار دمشق بقوله:» ومن محاسن دمشق حمام مصطفى باشا، فإنه لا نظير له في تلك الأقطار ولا مداني من حسن المباني»(ابن كبريت، 1965: ص 224.) ويمثل لالا مصطفى الذي تولى دمشق سنة 971ه/1563م أحد أكثر الولاة اشتهارا بالاهتمام بالتعمير والترميم ومن عمارته خان مصطفى لالا الذي يقع تحت قلعة دمشق.(المقار، 1949: ص 15). ويشير ابن كنّان إلى حمام «ملكة» الذي عده» من أحسن حمامات الشام». (ابن كنّان،1994: ص361) ويذكر أربعة عشر حماماً في حوادثه. ومن متابعته لحمام ملكة في سنة 1136ه/1723م قوله: «وفيه تمّ الحمام شمالي الدرويشية وقبلي السرايا وغربي الأخصاصية وهو وقف على الحرمين الشريفين واستأجره المستأجر بإحدى عشرة ماية مدة سنة وأوقفه آغة البنات بالروم» (ابن كنّان،1994: ص 359). وذكر نعمان قساطلي عام 1860م ثمانية وخمسين حماماً في أنحاء دمشق وكان أشهرها حمام الخياطين وحمام القيشاني وحمام النوفرة وحمام المسك الذي وصف آنذاك بأنه « أتقن الحمامات وأجملها(قساطلي، 2008: ص 69) إلى جانب حمام الخراب وحمام البكري وحمام الشيخ رسلان، وورد عنه عبد الرحمن سامي بيك الذي زار دمشق سنة 1890م، ثمان وخمسون حماماً، كانت منتشرة في تلك السنة» وكان أشهرها حمام القيشاني وحمام الخياطين وحمام النوفرة...»(بيك،1981: ص 94). وعني الباحثون المعاصرون بدراسة الحمامات، فقد أشار ميشيل إيكوشار وكلود لوكور ومنير كيال ويوسف نعيسه، وتابع أكرم العلبي دراسة الحمامات الدمشقية عبر القرون، إلى جانب المسح الذي قام به العلبي حول الحمامات التي كانت موجودة وما زال بعضها عاملاً حتى اليوم. حمام السوق والمرأة والترفيه تعامل الدمشقيون مع الحمام كمرفق اجتماعي ذي طابع ترفيهي، واعتاد أصحاب الحمامات ومشغليها أن يستأجر الأثرياء من الحمام المشلح والمقصورة أو عدة مقامير، لساعات من بعد الظهر أو المساء، وكانوا يؤمونها مع عائلاتهم أو مع أصدقائهم المدعوين خصيصاً للاستحمام (إيكوشار ولوكور، 1985م: ص 49)، أما الزبائن الشعبيون فقد التزموا مداومة الحضور للحمام، في أوقات فراغهم. وغالباً ما يكون الحمام محطة مهمة من محطات الريفيين القادمين إلى دمشق لهدف تجاري، فقد توفي حسن بن محمد الديرماكري في أحد الحمامات مختنقاً بعد أن قدم لدمشق وباع محصوله وقبل أن يهمّ بالعودة لقريته – دير ماكر- إذ أنه بحسب السجل الشرعي دخل أحد الحمامات واختنق في الجزء الجواني منه. ويرسم أبو الفضل الدمشقي في وصفه للحمامات طبيعة عمل أصحابها، وهو يكشف عن طبيعة العلاقة التي يجب أن تكون عليها علاقة صاحب الحمام أي من عقارات الاستراحة فيقول: «... والحمامات مكروهة عند محبي الخمول لاشتهار اسم صاحبها وكذلك أيضا الفنادق والحوانيت وغيرها، فيجب على مالكها أن يتولى استخراج الأجرة بنفسه ليأمن من اكتساب العداوة والبغضاء من السكان...» (الدمشقي، 1999م: ص 49) بقدر ما يحمل نص الدمشقي من معطيات سوسيولوجية في التعامل بين الزبائن ومالكي الحمامات وغيرها من مبان ومرافق الاستراحة، إلا أن مجتمع الحمامات يختصر الصورة العامة لسكان دمشق الذين يتوحدون في هذا المكان، إنها تمدنا بمشهد واضح حول مكونات المدينة وثقافتها. ويزداد إقبال الناس على الحمام عندما يكون محبوساً لجهة وقف (ذري أو خيري)، ومثال ذلك حمام فتحي أفندي الفلاقنسي الدفتر دار «...الذي عمره في حي الميدان المسمّى باسمه» (البديري، 1959م: ص80) وأوقف عليه جرايات، وكان المرء يستحمم فيه من دون مقابل ويأكل قرصين من الصفيحة (نعيسه، 1986: ج1، ص 122). ويعد ذهاب النساء إلى الحمام الدمشقي جزءاً من الثقافة الدمشقية وكنّ يأتين إلى الحمام بكامل زينتهن مع حاشيتهن، وغالباً ما يُعد لهن الحمام مسبقاً ويصطحبن معهن في بعض الأحيان المغنيات، بخاصة إذا كُنّ قد قمن بحجز الحمام لهن ولصديقاتهن وقريباتهن مسبقاً (كيال، 1994: ص220، نعيسه، 1986: ج1، ص130). وفيما يلتقي الرجال نهاراً أو ليلاً في المقهى، فقد أتيح للنساء الدمشقيات وهن محرومات من المقاهي، أن يذهبن إلى الحمامات وكان يطيب لهن اللقاء، حيث يغسلن أطفالهن ويلتقين بصديقاتهن ويعرضن بناتهن المناسبات للزواج. عالم الحمام النسائي كان يعج بالمؤهلات للزواج، مما حوّل الحمام إلى شبه سوق للعرائس. ففي الحمام يقول منير كيال»... تصادف أم العريس أو أخته أو الخاطبة خالتها في الحمام بين الفتيات اللواتي يأتين مع أمهاتهن بغية الاستحمام. وفي الحمام تتأمل الأم في تلك الفتيات الواحدة تلو الأخرى: في قوامها وتناسق جسمها وحركاتها العفوية ومشيتها... ومن ثم تتحين الفرصة لمحادثتها، حتى إذا تم لها ذلك تلاحظ نبرة لسانها وطلاقتها ونغمة صوتها ومن خلال هذا تعرف اسمها وعمرها وعائلتها...»(كيال، 1964م: ص 219). ومع ذلك، فإلى جانب هذه الوظيفة الخاصة بالزواج، والتي كانت تقوم بها الحمامات، فإنها تمثل أماكن للاسترخاء وهي بالنسبة للنساء مجال للترفيه أكثر من الرجال. ولم يقتصر الاهتمام بالحمامات عند هذا الحد، بل دخلت في اهتمامات مثقفي دمشق، ووضعت مؤلفات خاصة بها، ومنها مخطوط يوسف عبد الهادي (ت: 909ه/1503م) «آداب الحمام وأحكامه»، ومخطوط عدة «الملمات في تعداد الحمامات». وقد تذهب النسوة للحمام معاً بشكل جماعات بعد أسبوع على انقضاء ولادة إحدى نساء الحي، ويحضرن معهن الطعام ويمدن سماطاً، ومع أن هناك حمامات خاصة في بيوت الأثرياء مثل حمام منزل الشيخ مراد المرادي، بوسط الدار، إلا أن النسوة كنّ يذهبن لحمام السوق، تقول المرحومة السيدة زهرة المرادي: «مع وجود حمام ببيت جدنا مراد المرادي إلا أننا كنا نذهب في المناسبات لحمام السوق مثل حمام العروس، وما زلت أذكر الحمام منذ مجيئي لعمان سنة 1951م» (المرادي، زهرة. 2009م). فبوجود النساء في الحمام يخرج عن كونه مكاناً للاستحمام والطهارة لأن تناول الطعام في الحمام يعد من جوانب الحياة الثقافية والاجتماعية، ومن خلاله تستطيع استكشاف الكثير من معاني الحياة اليومية، وتقاليد المجتمع وسلوك الأفراد ومستويات الحياة. * أستاذ التاريخ في الجامعة الأردنية