عشرة طويلة أصيلة، وذكريات كثيرة مثيرة، وطرائف وحكايات عدة جمعت بينهما. صحيح أن علاقتهما في بداية الأمر لم تبن على اختيار حر، أو حكاية حب، أو حتى معرفة عابرة، إلا أن ألفة نشأت بينهما وتفاهماً جمعهما وتواؤماً غمرهما. ورغم أن العلاقة الفريدة الغريبة كانت محددة بأجل يزول بزوال الغرض، وصحيح أنهما في البداية كانا يعدان الدقائق ويحصيان الساعات أملاً في خلاص كل منهما من الآخر، إلا أن كليهما لم يتصور أن يجد نفسه حائراً متشككاً متوجساً مترقباً يشعر بحزن الفراق وألم الاعتياد وتوجس مما هو آت يطبق بقبضته الموجعة على رقبة هذا وذاك. هذا هو الشعب المصري الموشك على الخروج من أيام حظر التجول ولياليه، وذاك هو الحظر الذي يلملم أشياءه ويجمع دباباته ويكوم مدرعاته ويخزن حواجزه ويكتل قراطيسه ويعيد ترتيب قواته ويستعد الاثنان للوداع وإن كان بعضهم يخالجه شعور غامض بأن غداً لناظره قريب. قرب إعلان انتهاء حال الطوارئ التي فرضت على البلاد والعباد بموجب إعلان دستوري من 33 مادة في 8 تموز (يوليو) الماضي، أثار حالاً من الارتباك والتخوف والتريب وكأن النهاية فاجأت الجميع. صحيح أن وضع الالتباس الذي جعل المصريين ضائعين تائهين متأرجحين بين «الحظر انتهى الثلثاء» و «الحظر ينتهي الخميس» بسبب حكم محكمة القضاء الإداري بانتهاء حال الطوارئ رسمياً أول من أمس وليس اليوم كما سبق وذكرت رئاسة الوزراء، زاد دوختهم السياسية المقيتة ولخبطتهم المعلوماتية الرهيبة، إلا أنه مجرد نقطة في بحر التباسهم حول ما ستؤول إليه أوضاع شوارعهم وأحوال أبنائهم وظروف تحركاتهم وتأمين عائلاتهم وتحركات جموع «سيسي يا سيسي مرسي رئيسي» التي استقطبت لتأييد «الإخوان» في مقابل أولئك الذين هم مستقطبون لتأييد كل ما هو عكس الجماعة ومشروعها. مشروع الجماعة المعرقل من قبل حال الطوارئ والمجهض على يد الطبيب المعالج والمفروض برغبة قطاع عريض من الشعب المجهد يجد نفسه متحيناً متربصاً مستنفراً لإعادة ترتيب الأوراق المبعثرة وتنظيم الملفات المشتتة وتفعيل الخطط البديلة الرامية إلى إثارة القلاقل يومي الأحد والإثنين وتعطيل الطرق أيام الثلثاء والأربعاء والخميس وإشاعة الفوضى يوم الجمعة واقتحام الجامعات السبت بهدف دحر أيام الانقلابيين وكسر حكومة الانقلاب وهدم الدولة المنقلبة، وهي الفعاليات التي كانت تنتهج مبدأ «نصف الوقت» أي بعد انتهاء ساعات الحظر. ساعات الحظر المرفوعة وأيام الأسبوع العائدة إلى طبيعتها تعني أن رؤوس الجماعة المدبرة تخطط على الأرجح لدفع قواعدها لاستثمار عودة «اليوم الانقلابي» للعمل بكامل طاقته، وذلك حتى «يعود مرسي إلى القصر يوم الأحد العصر». جهود أنصار الشرعية والشريعة في الداخل والخارج لعودة مرسي إلى القصر يوم الأحد العصر والتي يعتقدون أنها ستؤتي ثمارها عبر إشاعة الفوضى في كل مكان، مرتبطة في أذهان جموع عريضة من المصريين بحال الطوارئ. وبمعنى آخر، يؤمن كثيرون بأن حال الطوارئ وساعات الحظر المنفذة بحزم وحسم شديدين هي حائط الصد الذي حماهم إبان الأشهر الثلاثة الماضية من هرج «الإخوان» وعبثهم. عبث «الإخوان» صب في مصلحة عبوس الدولة المكشرة عن أنيابها تكشيراً يثير استحسان كارهي الجماعة ويفجر حنق أنصار الشرعية، حتى بات الوجه الآخر لرفع الطوارئ وانتهاء الحظر هو إصدار قانون التظاهر. ورغم تأكيد الناطق باسم الرئاسة إيهاب بدوي أن لا علاقة إطلاقاً بين صدور قانون التظاهر وانتهاء الطوارئ، إلا أن أحداً لا يمكنه أن يغفل التزامن «العبقري» والتلازم «المبهر» بين الحدثين، خصوصاً أن التزامن والتلازم كان من شأنهما أن يفجرا تظاهرات ثورية غاضبة ويؤججا احتجاجات حقوقية عارمة، لولا تصدر الرغبة في التخلص من مخططات الجماعة قائمة أولويات المصريين متقدمة بذلك على «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية» ومتفوقة بمراحل على مطالبات الحقوق واستحقاقات الحريات. «الإخوان» الذين أبلوا بلاء مبهراً في تجييش المصريين بعيداً من مطالب ثورتهم الأصلية تحت وطأة تفاقم خطورة مخططات الأهل والعشيرة في مقابل مطالب مصر والمصريين أوقعوا الشعب في علاقة حب وطيدة وحال عاطفية فريدة مع الحظر ولياليه، وبدل البكاء على أطلال الحبس الانفرادي في البيوت وتجرع مرارة التلاحم العائلي الإجباري ووضع كلمة النهاية أمام ورديات العمل الليلي وتحديد إقامة الشعب، فإن غالبية لم تتذمر أو تلعن الطوارئ أو تناصب الحظر العداء. وسيكتب التاريخ ضمن إنجازات «الإخوان» أنهم نجحوا في ما لم يرد على بال أو يطرأ على خاطر، وهو أن يشعر شعب بألم الفراق وهو يودع الحظر المفروض عليه. وبحسب «المركز المصري لبحوث الرأي العام» (بصيرة)، فإن 62 في المئة من المصريين الذين سمعوا عن قانون مكافحة الإرهاب يوافقون على إصداره، وتبلغ النسبة 55 في الوجه القبلي و65 في المئة في الوجه البحري و68 في المئة في المحافظات الحضرية. ويقول رئيس المركز ماجد عثمان إن «الشعب يخالجه شعور بالقلق مع انتهاء حظر التجوال وعودة الجيش إلى ثكناته بعدما ساهم في فرض السيطرة الأمنية». ورغم أن المركز نفسه أكد في قياس سابق للرأي العام أن دخول 46 في المئة من المصريين تأثرت سلباً بحظر التجوال، إلا أن هذا التأثر القاتل لم يكن أشد فتكاً بهم من مشروع الجماعة وجهود قواعدها. وفي حين تعلن القوات المسلحة أنها ماضية قدماً في تطبيق حظر التجول إلى حين وصول منطوق حكم المحكمة إلى رئيس الوزراء ووزارة الداخلية أو انتهاء الطوارئ اليوم وتؤكد إنها بدأت بالفعل في تأمين الشوارع والميادين بحسب الخطة الموضوعة من دون انتظار انتهاء العمل بالحظر، يسن أنصار الشرعية والشريعة أسنانهم ويسلكون حناجرهم ويجهزون عدتهم لاستثمار انتهاء الحظر ورفع الطوارئ، وجموع المصريين تتحسس طريقها وتراجع تخطيطها لحياتها بعد 90 يوماً من الحظر. ولا يخلو الأمر من قليل من دموع الفراق على «ساعة الحظر التي لا تعوض» وأغنيات العرفان، تارة «يا ليلة الحظر أنستينا» والوداع تارة «والله بدري بدري يا حظر التجول»، و «هاشتاق» الحظر بألوانه حيث تأريخ شبابي: «سيكتب التاريخ أننا جيل الحظر بعد جيل مبارك ومن قبله جيل أكتوبر وقبلهما جيل عبدالناصر»، ومطلب جماعي: «اقترح تخصيص يوم حظر في الأسبوع فور فان» (من أجل المتعة)، وبكائية نسائية: «أنا أصلاً موضوعة تحت الحظر»، وتنبؤات: «فليستعد الجميع لموجة ثانية من حظر التجول». يُشار إلى أن الاختبار التمهيدي لانتهاء الطوارئ ورفع الحظر سيعقد الجمعة حيث كرنفالات الجماعة الأسبوعية، في حين تشهد البلاد الامتحان العسير في 19 الجاري يوم إحياء ذكريات محمد محمود المتتالية حيث يجهز الأضداد ل «احتفال» أو «احتفاء» أو «التفاف» أو «انقضاض».