يبدو أن زخات المطر الهادئة التي أصابت عروس البحر الأحمر جدة صباح أول من أمس، خففت من حدة «فوبيا» الكوارث لسكان هذه المدينة العتيقة، إذ بدت شوارعها وطرقاتها «ضاحكة مستبشرة» بتجاوزها لاختبار قدرة مشاريعها للتصدي لمياه الأمطار وجريان السيول من دون فضائح. ويجتهد المسؤولون في هذه المدينة بنشر التطمينات ل«الجداويين» بعدم الخوف من عودة كارثتي جدة الأولى والثانية، اللتين وصفهما بعض المسؤولين في ذلك الوقت بأنهما الأسوأ في تاريخ البلاد منذ عقود، وما حملتاه من قصص محزنة تبدأ بموت الأطفال مروراً بحوادث الغرق وانتهاء بامتلاء ثلاجات الموتى ب«الجثث». عادت زخات مطر جدة لترسم الفرح على الشفاه الصامتة، وكأنها تترنم. المشهد العام في جدة كان واضحاً عليه ازدحام المتنزهات والشواطئ بالعائلات التي تجمعت للاستمتاع بتناغم صوت المطر وهدير الأمواج ولسان حالهم يقول: «جانا مطر ما ذكرك بالمواعيد». هكذا هي جدة عروس البحر، على رغم المآسي كلها التي مرت بها إلا أنها لا تزال تمتلك موهبة النسيان وصياغة الفرح. يقولون: «جدة أم الرخاء والشدة»، فبعد أمطار الحزن التي بكت العروس ضحاياها خلال كارثتين كانت الأولى يوم الأربعاء 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009 والتي وصل عدد ضحاياها بحسب ما نشرته الصحف في ذلك الوقت إلى ما يزيد على 116 شخصاً، بينما كان حوالى 350 شخصاً في عداد المفقودين، وقدرت أضرار السيارات والعقارات بالآلاف. وجاءت الثانية يوم الأربعاء 26 كانون الثاني (يناير) 2011، إذ وصل عدد الضحايا إلى 10 أشخاص، والإصابات قدرت بنحو 114 إصابة، ما استدعى نزول قوات الجيش والحرس الوطني في أكبر عملية إنقاذ تشهدها المملكة في تاريخها، كما تم إنقاذ 1451 شخصاً بواسطة الفرق الأرضية، و467 آخرين من طريق المروحيات. وثّقت العروس الفرح بصور الأطفال وهم يلهون تحت المطر، حتى إن المرافق الحيوية في هذه المدينة باتت حالها أفضل واستنفارها أسرع، وخططها أعمق وأشمل. ربما كانت جدة بحاجة إلى الغرق بدموع السماء كي تغسل أحزانها وتنفض غبار الإهمال عنها، لتعقد ميثاق الصلح والفرح ويغني لها الراحل طلال مداح: «يا طفلة تحت المطر».