زكريا شخصية إعلامية مؤثرة، لكنه لا يفهم المنطقة جيداً، مثلاً حاول سابقاً تفسير أزمة ديموقراطية العالم العربي بالإحالة إلى الفتوحات الإسلامية قبل أكثر من 1000 عام. انتقاد أية سياسة خارجية طبيعي وضروري وصحي، والنقد أكثر فائدة من طرف خارجي يرى ما لا نراه أو من خصم سيجتهد في إبراز أكثر الجوانب سوءاً وضعفاً، ونحن بحاجة إلى النقد والاستفادة منه. مقالة فريد زكريا «السعوديون هائجون؟ «طز!» لماذا علينا ألا نبالي إذا كانت أكثر دولة عديمة مسؤولية في العالم حانقة من الولاياتالمتحدة»، تظهر وكأنها نقد، لكنها ليست إلا تفريغ شحنات عاطفية، واهتميت بها ليس لأن لديه جمهوراً بل لأنها فرصة ملائمة للتوقف والتأمل في كيف يفكّر عنا الآخرون. زكريا يقول إن سياستنا الخارجية سيئة ولا مسؤولة لكنه لا يتكلم عنها، هو فقط حشد قضايا تثير عواطف جمهوره. ولعلّه أراد أن يقول: «سياسة أميركا الشرق أوسطية تفشل، كما يُقال لنا»، القائل إن سياسة أميركا فاشلة هو زكريا، بل وصف سياسات أوباما بأنها دراسة حالة «كيف لا تمارس السياسة الخارجية»، «وأن أفضل برهان على ذلك [الفشل] هو أن السعودية ساخطة»، ثم يستهزئ بمن يأخذ السخط السعودي برهاناً، لأن: «آخر مقياس لسياسة أميركا الخارجية هو كيف يتم استقبالها من بيت سعودي» وغريب أن يقول أحد إن الحفاظ على علاقات جيدة مع حلفائك الأساسيين ليس مقياساً لنجاح سياستك الخارجية. السعودية حليفة للولايات المتحدة منذ سبعة عقود، وهو حلف قائم على مصالح متبادلة ملموسة وضرورية للأمن القومي للبلدين. ومع أنه يقلل من أهميّة هذا الحلف لكون الولاياتالمتحدة ستستغني قريباً عن نفط الخليج، إلا أنه ينسى أن السعودية ليست فقط مصدر نفط لأميركا بل ركيزة أساسية لأمن الطاقة العالمي باحتياطاتها وبتأثيرها في أمن منطقة الخليج الفارسي. وليست بحاجة فقط إلى نفط الخليج بل أيضاً إلى استقرار سوق النفط العالمي وإلى هيمنتها احتياطات الطاقة العالمية. ثم يعدد زكريا الأسباب التي تجعله يرشح السعودية لجائزة أكثر الدول ذي سياسة خارجية لا مسؤولة. خلاصتها: أن السعودية أكثر دولة مسؤولة عن صعود التطرف والعنف الإسلامي في العالم، وأنها خلال أربعة عقود صدّرت الوهابية النموذج المتطرف والعنيف والإقصائي لدين الإسلام على حد توصيفه. بل إن السعودية من بين ثلاث دول اعترفت ودعمت حكومة طالبان قبل هجمات 11-9. وأنها لاعب أساسي في الباكستان الموطن لأكثر الإرهابيين خطورة. وأنها دعمت المتطرفين السنة في العراق، والآن تقوم بالشيء نفسه في سورية. أي إن العلاقة بين السعودية والمتطرفين جعلتها أكثر دولة ذات سياسة خارجية لا مسؤولة. لنفترض صحة العلاقة بين السعودية والمتطرفين الإسلاميين، لكن هل سيقول الشيء نفسه، ويمنح الجائزة للدولة التي رعت أكثر الأنظمة دموية في العالم؟ أو للدولة التي دمرت ديموقراطيات أميركا الجنوبية، وقضت على مستقبل شعوب ودول لأجل مصالحها؟ أو للدولة التي قالت وزيرة خارجيتها إن موت 500 ألف طفل عراقي ثمن مقبول لكسر نفوذ صدام حسين؟ أو للدولة التي فاق عدد ضحايا المدنيين في سنة واحدة ضحايا «الإرهاب» الإسلامي منذ الثمانينات وحتى اليوم؟ أو للدولة التي موّلت وتدربت عصابات إرهابية في وسط أميركا وجنوبها؟ عندي الكثير مما أقوله ضد الوهابية كمدرسة دينية، لكن في الوقت نفسه أعلم بأنه لا يوجد تلازم ضروري بين الوهابية والعنف. أن تحمل عقيدة دينية جافة أو إقصائية لا يعني أنك ستكون عنيفاً أو إقصائياً، وأن تحمل عقيدة روحية تؤمن بالسلام لا يعني أنك ستكون مسالماً ومحباً للخير، السلوك العنفي والإقصائي موجودان لدى المجتمعات كافة، وكل أتباع الديانات، ولا يمكن تفسير تلك السلوكيات بالدين، وزكريا نفسه مدح الرئيس بوش الثاني، لأنه اكتشف أن جذر الإرهاب الإسلامي هو في المشكلات التي يعاني منها العالم العربي، أي ليس في الإسلام ولا الوهابية بل في قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية، لكن حتى لو افترضنا أن كونك وهابياً يجعلك أقرب للإرهاب، فإن زكريا نفسه كان يقول إن الحكومة السعودية لم ترع الإرهاب. وكان يميّز بين المال السعودي والحكومة السعودية. فما عدا مما بدا؟ هل ظهرت أدلّة جديدة، أياً كان الأمر فإنه لكي تحلل العلاقة بين السعودية والوهابية سياسياً، فأنت مضطر لأن تتحدث عن المكاسب والخسارات الناتجة من هذه العلاقة، لكنه لم يقم بذلك. هو فقط تحدّث عن العلاقة من دون أن يبين كيف أن هذه العلاقة أفادت السعودية بل وأفادت الولاياتالمتحدة. ثم أكمل ليقول إن الاعتراض السعودي على مواقف أوباما من إيران وسورية لا علاقة لها باعتبارات إنسانية، وأن السعودية غير مهتمة بشعوب تلك المنطقة. وكأن زكريا يقول لنا إنه لا بد من أن تكون هناك أرضية إنسانية لأي اعتراض على أية استراتيجية دولية، لكن ألف باء «السياسة الخارجية» أنها أنانية بطبعها. فلا تستطيع إلا أن تكون كذلك، ولا بد من التمييز بين من يمارس السياسة الخارجية والسياسة الخارجية نفسها، فقد يكون الممارس أخلاقياً وإنسانياً، لكن سياسته الخارجية لا إنسانية ولا أخلاقية (أي خارج نطاق الإنسانية والأخلاق). وطموح وأمل مثل هذا السياسي هو أن يجد نفسه أمام قرار سياسي أناني يوافق اعتباراته الإنسانية والأخلاقية. ثم هل يطلب أو يتوقع زكريا من الولاياتالمتحدة أن ترسم علاقاتها الخارجية بحسب إنسانية الدول التي تتعامل معها؟ وهل يلمّح زكريا بأن أوباما مهتم بالإنسان السوري أو الإيراني؟ وهل التوتر بين السعودية وأميركا هو بسبب أوضاع شعبي إيران وسورية أو بسبب خلافهما في المصالح؟ ثم قال زكريا إن السياسة الخارجية السعودية تعادي إيران ونظام الأسد، لأنهم شيعة، والقيادة السعودية تريد للشيعة كل الشر، هذا يدل على جهل مطبق بالسعودية، وعلى العلاقة بين الدين والسياسة في المنطقة. وكتبت مقالة سابقة حول سطحية التحليلات المذهبية للسياسة الخارجية فأحيلكم إليها، وهو بلا شك يردد ما يقوله الكثير حتى منا، لكن أتمنى ممن يدّعي مذهبية السياسة الخارجية السعودية أن يأتي بأمثلة واضحة، هو يقول لنا إن المشايخ السعوديين يكفّرون الشيعة، وهو في هذا محق جزئياً، لكن تلك الفتاوى التكفيرية ليست جزءاً من دليل السياسة الخارجية السعودية. ثم ختم زكريا بأمر مضحك بعض الشيء، فقال: «إن السعودية تخشى أن مقعدها في مجلس الأمن قد يقيد حريّتها أو يسلط الضوء العالمي على تصرفاتها غير التقليدية»، وكأن دول مجلس الأمن هي أكثر الدول في العالم تقيّداً بالقانون الدولي! وكأن السعودية دولة مغمورة لن يطلع أحد على سلوكياتها إلا لمّا تنضم إلى مجلس الأمن. أخيراً، «فما مكسب [المواطن] الأميركي العادي من تقليل تأثيرنا في السعودية العربية، البنك المركزي للنفط، في عالم ما زلنا فيه معتمدين عليه كمصدر للطاقة؟» هذا سؤال وجيه جداً طرحه فريد زكريا في 2008، أتمنى أن نجد له جواباً. والسؤال الأهم هو: ما نحن فاعلون إزاء الصورة النمطية الراسخة عنا في عقول أكثر المحللين السياسيين في العالم؟ * كاتب سعودي.