منذ أعوام طويلة ينتقد اقتصاديون وسياسيون احتساب الناتج الإجمالي المحلي، ونهج الاحتساب، وينبهون إلى ضعف كفايته في وصف الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. ويلاحظ كتاب مشروع تقرير ستيغليتز ولجنته، وهي اللجنة التي ندبتها الدولة الفرنسية، في إشراف حائز جائزة نوبل للاقتصاد ونائب مدير البنك الدولي سابقاً ومستشار بيل كلينتون الاقتصادي - ان الأداة الاحصائية الاقتصادية تحتاج الى مراجعة فعلية في ضوء تغيرات عميقة طرأت على الاقتصاد. فقياس النمو في أثناء «السنوات المجيدة» (1945-1973)، وهي شهدت نمواً سريعاً ومتصلاً، تناول على وجه الخصوص انتقال أنشطة غير سلعية إلى القطاع السلعي والتجاري. ويدين النمو بتعاظم أرقامه في السنوات هذه الى عمل النساء. والوجهة هذه انعكست، وانقلبت الى نقيضها، وتثقل على متوسطات النمو سلباً في البلدان المتقدمة، وتبطل المقارنة مع الماضي الأسطوري هذا. ولا يخلص التقرير من هذه الحال الى اقتراح تخفيض النمو ومتوسطاته المتوقعة والمرجوة في البلدان المتقدمة، إلا أن التحليل يقود من غير شكل إلى النتيجة هذه. وعلى المثال نفسه، يعالج التقرير احتساب الخدمات والمصالح العامة والمشتركة (قطاع خدمات الدولة) في الناتج الإجمالي المحلي، وأبرزها نفقات التربية والصحة. ويتناول الاحتساب، اليوم، شطراً من النفقات، ولا يلحظ العوائد والأرباح التي تجنى من الإنفاق على التربية والصحة. وترى اللجنة ان قياس مستوى المعيشة الحقيقي لا يستغني أبداً عن اعتبار عوائد الإنفاق على الخدمات العامة ودمجها في اللوائح الاحصائية. ولا ريب في أن دمج عوائد هذا الانفاق في الحسابات العامة ينصف بلدان أوروبا القارية في المقارنة مع بلدان يقل إنفاقها على المرافق العامة عن نظيره الأوروبي. وينصح التقرير بإطراح النفقات السالبة من الناتج الإجمالي المحلي. ومن النفقات السالبة تلك التي تصرف على السجون وإدارتها، ونفقات الانتقال من محل السكن الى محل العمل، أو تلك التي تذهب الى تقليص التلوث. فهي لا تستحق الإدراج في النمو وعوامله وقياسه. ولا يترتب على الإطراح المقترح ناتج أخضر. ولكن الناتج المتحصل من الاطراح نظيف، وتقتضي النظافة المرجوة ان تكف البلدان المتقدمة عن اقتطاع الموارد الطبيعية من البلدان النامية بسعر بخس. ويولي التقرير المسألة هذه عناية واهتماماً قويين. ورأس المال الإنساني من العوامل الحاسمة في الرخاء، على ما يرى التقرير. وعليه، يجب ألا يغفل في إنشاء القرائن والمؤشرات على النمو المستدام. ويذهب التقرير إلى هذا الرأي في رأس المال الإنساني بينما تخلى معظم الباحثين والكتاب الاقتصاديين عنه، وسوغوا تخليهم بضعف الإجماع عليه، وخروجه عن الأفكار السائرة والمتداولة. والحق أن إدراج رأس المال الإنساني في القرائن والمؤشرات على النمو المستدام، إلى اقتراح التقرير تناول نتائج النمو في ضوء حاجات الأسر، يخرجانه من منطق مراكمة الثروات النقدية الذي غلب على المعالجة الاقتصادية الى اليوم. فالتقرير يحمل على احتساب الثروات المنتجة فعلاً، وعلى تحليل توزيعها على فئات السكان. ويقود هذا، في آخر المطاف، إلى إرساء المؤشر الاقتصادي الأول، الناتج الإجمالي المحلي، على ركن جديد. وهذا يفوق ما كان مرجواً ومتوقعاً من التقرير التمهيدي الذي أوكل إلى لجنة ستيغليتز وضعه. وقد يقول المتحفظون إن التقرير كتب في أثناء أزمة تفوق طاقة الحكومات على المعالجة، ويشكك في عاداتنا الإحصائية والحسابية السابقة، ويلوح بأيام آتية خير من أيامنا أو مختلفة. ولاحظ بعضهم، شأن «منتدى مؤشرات مختلفة عن الثروة» (فير)، ان بعض مقترحات لجنة ستيغليتز سبق أن ذهبت إليها دراسات وأبحاث تناولت حقولاً خارج علم الاقتصاد. ولا ينبغي أن يدعو هذا إلى الخيبة أو التحفظ. وقد يترتب على إنشاء لجنة عالمية (تضم أمارتياسين الهندي وجان - بول فيتوسي الفرنسي وكينيث آرو الأميركي ودانيال كاهنمان الاسرائيلي وجايمس هيكمان الأميركي ونيكولا شتيرن البريطاني وكمال درويش التركي الى ستيغليتز)، عهد إليها بمهمتها رئيس دولة تشارك في قمة العشرين، حظ حمل مقترحاتها على محمل الجد، والعمل بها ربما. ويبقى القارئ على انتظاره في ما يعود إلى احتساب التكنولوجيات الجديدة والشبكات الاحتمالية. فعلاقات القطاعات هذه بالدائرة المالية النقدية جديدة، ولا تتفق مع المعايير التقليدية المعتمدة في قياس الناتج الإجمالي المحلي. ويترجح التقرير في مسألة الموازنة بين التضخم والنمو، وتخليص هذا من ذاك في ضوء النمو المستدام. ولعل زيادة أسعار المواد الأولية، والنفط في مقدمها، نبأ سار من وجهة نظر الدعوة إلى تجديد مدركاتنا ومفهوماتنا الأساسية والإقرار بمستوى مقبول وحسن من التضخم على المدى البعيد. والجزء الذي يتناول مسائل البيئة في التقرير يبدو ضعيفاً في ميزان التجديد الإحصائي المتوقع. فهو يخطو خطوات خجولة على طريق الانتقال من مؤشر تدفق الثروات المنتجة سنوياً، على النحو الذي يتناوله عليه الناتج الإجمالي الحالي تقريباً، إلى الإحاطة باحتياطات الموارد المتوافرة. ويحتاج حسن التصرف بالموارد، ومعيار الحكم فيه، الى الإحاطة هذه. وقد يأسف القارئ لتخلي اللجنة عن إقامة رابط واضح بين مقترحاتها وبين نهج الشركات في كتابة حساباتها وحكم الأسواق المالية في هذه الحسابات حين تقوم الاسواق الشركات. فقد تؤدي المقترحات إلى احتساب الناتج الإجمالي المحلي على نحو أفضل من النحو الذي يحتسب عليه اليوم من غير أن يطرأ تغيير على عمل الاقتصاد نفسه. فتقرر السياسات العامة في ضوء معايير أقرب إلى الواقع، وأكثر انصافاً، بينما تبقى قواعد النظام على حالها، وتقيم على تقديم عائد حامل السهم على عمل المنتج. وقد يتساءل القارئ عن جدوى تجاوز موضوع الناتج الإجمالي المحلي الى قياس السعادة. ويخص التقرير الأولي المسألة بشطر من صفحاته غير قليل. والحال هذه، ما هي حدود الحساب الكمي؟ ألا يعود الى الواحد منا، بمفرده، تعريف السعادة؟ على أن يدلي الناخبون وهم ركن الديموقراطية وحجر رحاها، برأيهم في النتائج. والأمر يتخطى مشادة الخبراء وخلافهم الى جواز احتساب الموضوعات النوعية في ميزان الكم. وعلى المناقشة العامة حسم المسألة. والتقرير الأولي درس في التواضع يلقيه الاقتصاديون على زملائهم، ودعوة إلى الأمل في معايير اقتصادية وحسابية مختلفة، على شرط أن تعقب التوصيات والمقترحات والمناقشات نتائج فعلية. * أستاذة وباحثة من كتبها «وإذا لم تقل الأرقام الحقيقة كلها؟» (2008)، عن «اسبري» الفرنسية، 8/9/2009، إعداد وضاح شرارة