كان يتعين على مالكولم كير أن يباشر عمله رئيساً للجامعة الأميركية في بيروت أول أيام تموز (يوليو) 1982، إلا أن الحصار الإسرائيلي لبيروت أجّل مباشرته لأكثر من شهرين التي لم يمر عليها عامان حتى تم اغتياله بالقرب من مكتبه. يمكن اعتبار اغتياله هذا مؤشراً للتحول الذي مر به العالم العربي منذ الستينات، أي الانتقال من الفترة التي وصفها هو في عنوان كتابه الشهير ب«الحرب العربية الباردة» إلى ما يتم وصفه الآن ب«الحرب الباردة الجديدة». فالحرب الأهلية اللبنانية كانت البداية التي أدى فيه ضعف الدولة والصراع الداخلي إلى نفاذ القوى الإقليمية والتنافس في ما بينهم ضمن قوى حليفة متنوعة، فكما كان الذي حدث في لبنان حرباً «أهلية»، كان أيضاً حرباً «إقليمية» مصغرة، شاركت فيها القوى الإقليمية كافة، ابتداءً من إسرائيل وأميركا ومروراً بسورية وغيرها من الدول العربية وانتهاءً بإيران، إلا أنه يجب علينا العودة إلى الوراء قليلاً، وذلك إلى ما وصفه كير ب«الحرب العربية الباردة». ففي تلك الفترة كان العالم العربي منقسماً إلى معسكرين، وكان الصراع بينهما ليس صريحاً بالأسلحة، بقدر ما هو صراع بالكلمات كما وصفه مايكل بارنيت. فالدول العربية لم تكن تتصارع في ما بينها في الفراغ أو تحت حال من الفوضوية كما يتحدث أصحاب «المدرسة الواقعية»، بل كانت تتصارع في ما بينها على تعريف ما يجمعها وتحديد الأعراف التي تحكم علاقاتها. كان الفريق المهيمن خلال هذه الفترة يحاول تثبيت ركائز عدة: التحديث، والاستقلال (أي مناهضة الاستعمار)، وتحرير فلسطين (أي مناهضة الصهيونية). إلا أن القصة معروفة، فهذا الفريق «هُزم»، ومنذ هزيمته تبدلت العلاقات والأعراف التي يتصارع عليها العرب، والتي تحكم سياستهم مع بعضهم. كانت حرب الخليج هي التعبير الصارخ لهذه الهزيمة، وتمزق هذه الأعراف للدرجة التي دفعت البعض إلى الحديث عن «الشرق الأوسطي» كإطار لفهم السياسات التي تحكم الدول في هذه المنطقة. ومع ذلك، فإنه منذ منتصف التسعينات بدأ يتشكل ما وصفه مارك لينش ب«الفضاء العربي»، وهو فضاء تواصلي نشأ مع تشكل الفضائيات العابرة للدولة والموجهة إلى العرب بوصفهم «عرباً». هذا الفضاء العربي يتميز عن الإذاعات في الستينات، بكونه أكثر استقلالاً من الدول، وتحرراً من قبضتها الرقابية والتجارية، أي أنه مفتوح للجميع، دول عربية وغير عربية، ومنظمات وجماعات ومستثمرين... إلخ. مع نهاية التسعينات، أي مع دخول «الإنترنت» للعالم العربي، بدأ يتشكل فضاء عربي موازٍ ضمن شبكات التواصل ومنتديات النقاش المفتوح التي سمحت للعرب بعد عقود من العزلة التي فرضتها أنظمة الاستبداد عليهم أن يلتقوا ببعضهم، ليناقشون قضاياهم، ويتحاورون. هذان التطوران على مستوى التواصل قابلهما تدهور كبير في مستويات أخرى. ففي الحرب الباردة التي تحدث عنها مالكوم كير كان العالم العربي يعيش بعيداً عن الصراع الدولي الأكبر (الحرب الباردة). فكما قال فريد هاليدي في كتابه «الشرق الأوسط في العلاقات الدولية» لم يكن الشرق الأوسط «إحدى الجبهات الرئيسة للصراع في الحرب الباردة»، وأنه «من المهم التمييز بين الحرب الباردة باعتبارها سياقاً تكوينياً، وبين كونها نظاماً من التحكم الاستراتيجي، يتحكم بأفعال الدول والحركات المحلية». هذه العزلة بدأت بالتلاشي منذ السبعينات، عندما أدى القرار العربي إلى حظر النفط عن الدول الداعمة لإسرائيل في حرب 1973 ثم الثورة الإيرانية ثم الحرب (الإيرانية-العراقية) إلى تزايد الاهتمام والتدخل الدولي في المنطقة الذي كانت شرارته الحرب الأهلية الإيرانية، الأمر الذي وصل قمته مع نهاية الحرب الباردة وإعلان أميركا لنفسها قطباً أوحد بقيادة التحالف الدولي ضد صدام حسين في حرب الخليج مطلع التسعينات. وإن كانت حرب الخليج حرباً للحفاظ على النظام الإقليمي، فإنه من 2003 بدأت الولاياتالمتحدة، كما قال جريجوري جاوس، بالانتقال من الحفاظ على النظام الإقليمي إلى محاولة تغييره، وذلك بغزو العراق ثم إجبار سورية على الخروج من لبنان ثم تقسيم السودان، وترك حلفائها في تونس ومصر يتهاوون أمام موجة الربيع العربي وقيادة الناتو لإسقاط القذافي، والتلويح به لإسقاط النظام السوري. إضافة إلى هذا التدخل الأمريكي، نجد تركيا وإيران تستغلان فراغ القوة العربي، لتمارس نفوذاً أكبر بكثير من الذي كانت تمارسه في الفترة التي وصفها كير ب«الحرب الباردة». وهذا النفوذ «الأجنبي» الخشن يترافق معه نفوذ «ناعم» عبر القنوات الفضائية وعالم «الإنترنت». فراغ القوّة هذا يزداد تعاظمه مع توسع حلبة المواجهة التي تخوضها القوى في العالم العربي ضد بعضها، فعوضاً عن التنافس في لبنان واليمن أصبحت ميادين الصراع تشمل، إضافة إلى ما سبق، كلاً من سورية ومصر والعراق وليبيا وتونس. وهذا يعني إضعافاً أكثر وزيادة في فراغ القوة، وهامشاً أكثر لممارسة النفوذ الخارجي. إن تزايد تآكل الاستقلال السياسي للفضاء العربي لا يصب في مصلحة العرب، ففي كل مرة تتآكل فيها قوّة دولة عربية لا يستفيد من ذلك إلا القوى الخارجية، ليتزايد حينها تقلص نفوذ الدول العربية، وهذا التآكل السياسي الذي يترافق معه زيادة في التواصل الاجتماعي، سواء في القنوات الفضائية أم «الإنترنتية»، يزيد من الشعور بالتهديد والخطر. إننا الآن في وضع لا يمكننا التنبؤ به، ولا يمكننا الاطمئنان لمستقبله، وهو في الوقت نفسه زمن لا نجد فيه الدول العربية التي يفترض أنها تمثل العرب تتحمل مسؤوليتها، وتحمي استقلال فضائها المشترك، وتزيد من قوتها، بل نجدها عوضاً عن ذلك تصطف مع هذا الفريق أو ذاك في عملية تدمير ذاتية لا قرار لها فيه. * كاتب سعودي. [email protected] @sultaan_1