إذا كانت إيران بطبيعة الدولة فيها، وبطبيعة الدور الإقليمي الذي تأخذ به، تمثل إشكالية كبيرة بالنسبة الى العرب (مقالة الأسبوع الماضي)، فإن سؤالاً ينبع مباشرة من داخل السياق نفسه، ولا يمكن تفاديه: ما هو دور العرب، وحجم مسؤوليتهم عن بروز وتنامي هذه الإشكالية الإيرانية؟ هل جاءت هذه الإشكالية من تلقاء نفسها؟ ربما قيل، وهذا صحيح، بأن التأثير الطائفي للدور الإيراني نابع من أن الدولة الإيرانية نفسها هي، بحكم دستورها ومرجعيتها الفكرية، دولة لطائفة بعينها، وأن هذه الدولة هي التي اختارت لسياستها في العالم العربي آلية طائفية. الصحيح في هذا أنه يكشف المساهمة الإيرانية في الإشكالية. لكنه يتجاهل، وربما يتغافل عن سؤال آخر: لماذا لم تمثل لا طبيعة الدولة الإيرانية، ولا دورها الإقليمي، إشكالية مشابهة بالنسبة الى تركيا؟ وإذا كان أحد جوانب الإشكالية الإيرانية بالنسبة الى العرب أن دورها الإقليمي يتنامى في شكل أساسي على حسابهم، وليس على حساب تركيا، ألا تعود مسؤولية هذا إلى العرب، وليس إلى إيران؟ من حق إيران أن تعمل على توسيع نطاق دورها، ومد نفوذها خدمة لما ترى أنه مصلحتها. لكن المفترض أن إيران لا تقوم بذلك في إطار فراغ إقليمي. ومع ذلك يبدو أحيانا وكأن إيران تتحرك في مثل هذا الفراغ فعلاً. كانت تركيا، وليس العالم العربي، أكبر خصوم إيران التاريخيين في العصر الحديث. ولأن تركيا اختارت مساراً علمانياً في بناء دولتها بعد الحرب العالمية الأولى، كان المتوقع أن تكون إشكالية إيران مع تركيا قبل غيرها. لكن هذا لم يحصل، حتى الآن على الأقل. لماذا بقيت الإشكالية الإيرانية تعني العرب، وعلى حسابهم قبل غيرهم؟ كما لاحظنا تنطوي الإشكالية الإيرانية على جانبين: طائفي مرتبط بطبيعة الدولة ومستندها الأيديولوجي، والجانب الآخر سياسي، أو الفعالية السياسية، مرتبط بدور إيران الإقليمي، وسعيها الدؤوب لتوسيع مجال نفوذها داخل العالم العربي. اللافت أن الجانبين ذاتهما موجودان لدى الدول العربية، وإن بدرجات متفاوتة، لكن مع اختلاف واضح، وهو أن وجودهما على الجانب العربي يأخذ طابع السلبية الجامدة، مقابل طابع الإيجابية النشطة على الجانب الإيراني. فالطائفية موجودة ومتجذرة في العالم العربي، وتتوزع في تمثيلها على تنظيمات وأحزاب وتيارات مختلفة وأحياناً متصارعة. لكن الأهم من ذلك، وربما نتيجة له، أن هذه المؤسسات لا تسيطر على الدولة، كما هو حاصل في إيران. هل كان المفترض أن تمثل هذه الخاصية جانباً إيجابياً للمجتمعات العربية؟ الحالة اللبنانية، ثم العراقية تحت الاحتلال الأميركي والنفوذ الإيراني، تقول بعكس ذلك تماماً. الأمر الآخر، أن إيران تحكمها دولة دينية تمثل الطائفية عنصراً أساسياً في تماسكها، ومرتكزاً لدورها الإقليمي. «الدول العربية» من جانبها ليست دولاً دينية. وبسبب أن التيار الغالب في مجتمعاتها هو التيار السني بمختلف مدارسه، فإن «الدولة العربية» ليست في حقيقتها دولة سنية، والطائفية ليست أبرز وأهم خصائصها. ما يميز «الدولة العربية»، ويعكس إشكاليتها وسلبيتها أمام إيران، أنها على أرض الواقع ليست كذلك: لم تتبلور الدولة العربية بعد، لتأخذ البنية المؤسسية، والمضمون القانوني والسياسي للدولة الحديثة. قصة أن بناء الدولة تعثر في العالم العربي طويلة. لكن إذا كانت فكرة الدولة بمؤسستها، وبمنطقها الاجتماعي والسياسي، ليست موجودة حقاً، فماذا يمكن أن نسمي الذي أمامنا ويحكم في العالم العربي؟ هنا نجد أن شيئاً، أو مفهوماً آخر حل محل الدولة، وهو ما يعرف ب «النظام السياسي». يشير النظام السياسي إلى سيطرة السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى للدولة، واستئثارها بهذه السلطات، وبالتالي اختزال الدولة في سلطتها التنفيذية من دون غيرها. وهذا يعني أن السلطتين التشريعية والقضائية أصبحتا تابعتين للسلطة التنفيذية، وليستا مستقلتين عنها. ومع خضوع السلطة التنفيذية لسيطرة فئة عسكرية أو مدنية من دون غيرها، ومن ثم استئثارها عملياً بكل سلطات الدولة تقريباً، تشكل النظام السياسي على النحو الذي نعرفه. نتيجة لذلك فإن النظام السياسي الذي يحكم في العالم العربي هو في الحقيقة أكبر من الحكومة، على اعتبار أن حدود صلاحيات الحكومة لا تتجاوز في الأصل حدود السلطة التنفيذية. لكن النظام السياسي أعطى لنفسه أكثر من ذلك بكثير، بما في ذلك استخدام أحد أهم خصائص الدولة، وهو احتكارها لشرعية استخدام العنف. في الوقت نفسه فإن هذا النظام السياسي هو في الواقع أصغر من الدولة، وذلك انطلاقاً من أن الدولة مفهوم أكثر شمولية، وأكثر انفتاحاً من أن يكون منغلقاً على فئة من دون غيرها، وهو الذي ينتظم السلطات الثلاث المعروفة: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، ويتطلب الفصل بين هذه السلطات، مع التأكيد على استقلالية كل واحدة منها في إطار الدولة نفسها. وقد ارتبطت بالنظام السياسي العربي، كما هو معروف، كل الموبقات العربية: الشعارات، والانقلابات، وعسكرة النظام، ومنهج الدعاية والادعاء، ...الخ. وترافق مع ذلك تراجع هيبة القانون، وانتشار الفساد، وتفشي العصبيات الطائفية والعشائرية، وانهيار أخلاقيات العمل، وهيمنة الأيديولوجيا، بما في ذلك الفكر الديني في العقود الأخيرة، وما استتبع كل ذلك من تفشي مظاهر تعثر التنمية في التعليم، والمعرفة، والحريات، والإنتاج والاقتصاد. ما يهمنا هنا، وبما له صلة بموضوعنا، أن سيطرة النظام السياسي في العالم العربي بكل ما يتميز به، وما يترتب عليه داخلياً، لها مستتبعاتها على الصعيد الخارجي. حيث اتضح مع الوقت تراكم ضعف الأداء السياسي لما يعرف ب «الدولة العربية». لم يكن هذا الضعف، وما كان يحصل له من تراكم، واضحاً للعيان في مرحلة الصراعات الكبرى: ذروة الصراع العربي الإسرائيلي، وذروة النزاعات على السلطة داخل كل «دولة عربية»، وذروة الحرب الباردة واستقطابها للدول العربية. بعد هزيمة حزيران بدأت الغيوم تنقشع، لكن ترافق مع ذلك أن النظام السياسي داخل البلدان العربية اشتد عوده وتصلب، وأنهى ظاهرة الصراع على السلطة. في موازاة ذلك أخذت ظاهرة ضعف الأداء السياسي العربي تكشف عن نفسها بما يشبه حالة تفسخ. بعد هزيمة حزيران جاء الارتباك العربي الذي صاحب حرب أكتوبر 1973، ثم حصار الجيش الإسرائيلي لأول عاصمة عربية، بيروت. ثم جاء الغزو العراقي للكويت الذي كشف هشاشة الأساس الاجتماعي للنظام السياسي العربي. وأخيراً سقط العراق مرة أخرى تحت الاحتلال. كانت ذروة ضعف الأداء السياسي العربي أن إيران هي التي استفادت من الغزو الأميركي للعراق، ومن خلاله مدت نفوذها هناك، وأمسى صوتها هو المرجح لمن يكون رئيس الحكومة العراقية، مقابل كل الدول العربية، بما فيها سورية حليفة إيران. تحول العراق من بوابة شرقية، إلى ثغرة شرقية، وحديقة للعمق الاستراتيجي الذي كانت طهران تبحث عنه. قبل ذلك كانت إيران قد أوجدت قاعدة صلبة لها في لبنان. وهذا طبيعي. فضعف الأداء السياسي ل «الدولة» أو النظام يخلق مع الوقت فراغاً سياسياً في الإقليم الذي تنتمي إليه. وعندما يجتمع ضعف الدولة مع تفشي العصبيات القبلية والطائفية داخلها، وفي الإقليم الذي تنتمي إليه، فإن هذا يؤدي غالباً إلى تكون ثغرة تسمح بتسلل قوى خارجية تريد الاستفادة السياسية من ظاهرة الضعف هذه، ومحاولة ملء الفراغ الناجم عنها. صارت مظاهر ضعف الأداء السياسي العربية واضحة للمراقب المتابع، وغير المتابع. قبل الحالة العراقية ودلالتها، كان المأزق الذي أوقع النظم السياسي العربي نفسه فيه أنه جعل من القضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي، المعيار الأول لمدى نجاحه وشرعيته. ربما أن هذا كان طبيعياً ومتوقعاً حينها. ما لم يكن متوقعاً، أن مسيرة «الدولة العربية» المعاصرة، بما في ذلك منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية بمجملها، تتناقض تماماً مع ذلك الاعتبار. ومصدر هذا التناقض بنيوي وليس أيديولوجيا. لأنه تبين أخيراً أن حجم وطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، بامتداداته وما يرتبط به من مصالح إقليمية ودولية، هو أكبر بكثير من طبيعة ومؤهلات النظام السياسي العربي. وإلا كيف يمكن تفسير أن الأمر انتهى بهذا النظام أنه لا يملك حالياً صنع السلام، ولا صنع الحرب؟ هل هناك في هذا الإطار مجال للتمييز بين ما يعرف ب «دول الاعتدال» و «دول الممانعة» العربية؟ مهما يكن، لم تتجاوز الاستجابة العربية للتحدي الذي تمثله الإشكالية الإيرانية حدود الشكوى كثيراً. هناك هجاء كثير لإيران، ولما يعتبره البعض دوراً تخريبياً لها في المنطقة. لكن هذا هجاء لا يختلف كثيراً عن الهجاء الذي لم يتوقف لظاهرة الإرهاب التي لا تزال تضرب المنطقة بكل شرورها وموبقاتها. وإذا كان انزعاج العرب من الآثار السلبية لطبيعة الدور الإيراني، فهل كان من واجبات إيران عندما قررت أن تحاول ملء الفراغ الناجم عن ضعف الأداء السياسي العربي، أن تستشير العرب حول كيف، وبماذا سوف تملأ هذا الفراغ؟