كتبت دراسات عدة عن تحولات في سياسة تركيا الخارجية، وانتقالها من التجاهل التام لجيرانها العرب والفرس إلى لعب دور بارز في المنطقة، أو انتقالها من سياسة «سلام في الداخل، سلام في الخارج» الكمالية، إلى سياسة «تقليص المشكلات مع الجيران إلى العدد صفر» الأردوغانية. سأحاول أن أقدم في هذه المقالة السياق العام لكيفية شكل العلاقة بين تركيا ومحيطيها العربي والإقليمي، ثم في مقالة مقبلة سأحاول رسم أبرز خطوط التحول. منذ تأسيس الجمهورية التركية، والأيديولوجية العلمانية - ذات الطراز الفرنسي - الأتاتوركية الحاكمة تسعى «لأوربة» تركيا، وهذا التوجه العام تمت ترجمته في السياسة الخارجية بالآتي: الاهتمام بتوسيع وتقوية العلاقات مع الأوروبيين، الانضمام لحلف الناتو والإسهام بشكل فعال لخدمة الكتلة الغربية في حربها الباردة ضد حلف وارسو والكتلة الشرقية، هذا التوجه العام جعل من النخبة العلمانية التي ترى تركيا كدولة «علمانية، قومية، حليفة للغرب» لا ترى حليفاً يستحق الالتفات إليه في المنطقة - التي كانت في غالبيتها متحالفة مع الاتحاد السوفياتي- سوى إسرائيل، والتحالفات الإقليمية التي انضمت لها كانت تحالفات «غربية» استعمارية الطابع، كحلف بغداد الذي يعمل على ردع الخطر الشيوعي وتجاهل خطر الاستعمار. بدأت العلاقات التركية - الإسرائيلية منذ الخمسينات الميلادية، وعلى رغم أنها اتخذت رتماً هادئاً إلا أنها كانت متعددة الجوانب وذات أهمية متبادلة، فعبر جماعات الضغط الصهيوينة في أميركا، استطاعت تركيا مثلاً مواجهة جماعات الضغط الأرمنية واليونانية التي تحاول الضغط على الولاياتالمتحدة الأميركية لاتخاذ سياسات وقرارات مضادة لتركيا. إلا أن هذه العلاقة التركية - الإسرائيلية خلال الحرب الباردة لم تكن دوماً علاقة توافق وود، فكثيراً ما أصابها التوتر والتبدبل نتيجة تأثرت سياسات إسرائيل العدائية ضد دولها المجاورة أو ضد الفلسطينيين. فتركيا صوتت ضد قرار التقسيم عام 1947، وقامت بخفض علاقتها مع إسرائيل إبان العدوان الثلاثي على مصر - إذ سحبت سفيرها، كما أنها قامت بذلك مرة أخرى، إلا أنها بعد عامين من رفضها لقرار التقسيم كانت أول دولة ذات غالبية مسلمة تعترف بدولة إسرائيل، وكان ذلك من أجل استغلال قوّة الجماعات الصهيونية في أميركا للحفاظ على المعونات الأميركية لتركيا. كان مبدأ آيزنهاور يصر على عدم السماح للفراغ الذي سيخلفه الانسحاب البريطاني من العالم العربي بأن يتم ملؤه بتمدد للهيمنة السوفياتية، فكان الدور المطلوب من تركيا لعبه في حلف بغداد على مد الجسور بين الدول العربية والغربية والتعامل مع الشيوعية كخطر وتهديد، إلا أن علاقات تركيا بإسرائيل، وبالقوى الأوروبية، وسماحها للجنود الأميركيين باستخدام أراضيها للإسهام في أزمة لبنان 1958، جعلها تتحول دوماً في عيون العرب - الذين لم تتبدد من ذاكرتهم ذكرى الاستعمار العثماني - إلى حليف للعدو أكثر منها وسيطاً بينهم وبينه. إلا أن الأزمة القبرصية في الستينات، ومحاولة الدولة التركية حماية الأقلية التركية في قبرص من الغالبية اليونانية، ورسالة الرئيس الأميركي التي أوضح فيها أن أميركا لن تقف إلى جانب تركيا إذا ما تدخل الاتحاد السوفياتي كنتيجة لتدخل تركيا في قبرص، هذا الموقف جعل الأتراك يعيدون حساباتهم ويسعون لأن يكونوا أكثر استقلالاً، فكانت السياسة الجديدة تتمثل في عدم الانخراط بأي أحلاف تثير عداوة الدول العربية، وعدم التدخل بعلاقات العرب مع الغرب، وعدم اعتبار الاتحاد السوفياتي عدواً وتمتين العلاقات التركية - الغربية. هذا الموقف الهادئ في الستينات الذي قاد تركيا للوقوف محايدة في حرب 67، تحول في السبعينات وذلك لأسباب عدة: تردي الاقتصاد التركي نتيجة ارتفاع أسعار النفط، وحاجتها للدعم في حربها داخل قبرص، وشعورها بأن الحرب الإسرائيلية - العربية عام 1973 تهدد محيطها الإقليمي، وكذلك مقاطعة الولاياتالمتحدة لها نتيجة تدخلها في قبرص، كل هذا جعل تركيا تتخذ مواقف متعددة، مثل عدم السماح لأميركا باستخدام قواعدها لدعم إسرائيل، وسماحها لطائرات الاتحاد السوفياتي الداعمة لسورية ومصر من استخدام مجالها الجوي، وكذلك قامت بالتصويت لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة كافة المنحازة للقضية الفلسطينية. مع زيادة اعتماد الأتراك على السوق العربية في تصدير عمالتها والاستفادة من طاقاتها الطبيعية، ومع وصول أحزاب تنادي بالاستقلال فيها، زاد تأرجح سياستها الخارجية بين انحياز للعرب في قضيتهم حد إغلاق قنصليتها في إسرائيل بعد إعلان الأخيرة تحويل عاصمتها إلى القدس، إلى إعادة العلاقات مجدداً وارتفاع مستويات التبادلات العسكرية والاقتصادية والسياسية. هذا النمط من العلاقات غير الوثيقة مع كل من العرب وإسرائيل والتقلب في المواقف سيتحول إبتداءً من منتصف الثمانينات إلى نمط جديد سأحاول تخصيص مقالة أخرى لتناوله. ما يهم ملاحظته في هذه الفترة، أن السياسة التركية تجاه محيطها الإقليمي كانت دوماً محددة بمصالحها القومية، سواء الاقتصادية، أو الجيوستراتيجية، أو غيرهما... وأنها بعد محاولاتها في النصف الأول من القرن 20 في حلف بغداد للعب دور قيادي في المنطقة، حاولت بعد ذلك تبني سياسة تحاول إيجاد سلام في المنطقة بالنظر للحال بين إسرائيل والعرب بأنها حال صراع بين الدول لا كونها حالاً استعمارية. * كاتب سعودي. [email protected] @sultaan_1