لا يزال الجدل قائماً حول ترحيل مراكز الإتصال من فرنسا إلى المغرب، بخاصة في ظل حاجة الشركات الأوروبية للبحث عن أسواق جديدة توفر لها هامشاً من الربح، لمواجهة تداعيات الأزمة الإقتصادية التي تدفع اليمين الفرنسي مرة بعد مرة إلى تعبئة الرأي العام عبر اللعب على وتر إعادة توطين مراكز الاتصال في فرنسا. قبل عامين تقريباً، حاول لوران ووكييز، كاتب الدولة المكلف بالتشغيل في حكومة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، طمأنة الرأي العام الفرنسي على سوق العمل في الجمهورية الخامسة، وطرح قضية مراكز الاتصال التي تُرحّل إلى المغرب والتي تضيّع آلاف فرص العمل على الفرنسيين، وتعهّد بإجراءات لتوطين مراكز الاتصال في فرنسا. غير أن كلام كاتب الدولة الفرنسي، قوبل بردود فعل قوية من طرف الرباط. وكان أول رد رسمي من الوزير السابق للصناعة والتجارة والتكنولوجيات الحديثة في الحكومة التي انتهت ولايتها أواخر عام 2011 أحمد رضا الشامي، الذي تحدث عن إانزعاج الرباط من الإجراءات التي تعتزم الحكومة اليمينية اتخاذها. واتصل الشامي بالسفير الفرنسي لمتابعة الموضوع عن كثب، وربط الإتصال بوزير الصناعة في تونس للخروج بموقف موحد، على اعتبار أن تونس تشكل أحد الأسواق المستقبلة لمراكز الاتصال الفرنسية بعد المغرب. وشهدت الأزمة التي عرفها قطاع ال"أوفشورينغ" بين فرنسا والمغرب انفراجاً نسبياً. فبعد لقاء سري جمع بين الوفد المغربي المفاوض في هذا الملف، وكاتب الدولة في الشغل بعد شهر من إعلان الإجراءات الفرنسية، عادت المياه إلى مجاريها. ولم يخف ووكييز عزمه على إعادة مراكز الاتصال المتمركزة في المغرب، مؤكداً أن الهدف هو بناء شراكة تكاملية بين فرنسا والمغرب، لخلق فرص للشغل. وأبرز المسؤول الفرنسي في حديث خصّ به صحيفة "لوباريزيان/ أوجوردوي أون فرانس" أن الهدف هو زيادة الوظائف في فرنسا، قائلاً: "لا نريد أن نقوم بذلك على حساب المغرب، بل مع المغرب". عودة الجدل حول مراكز الاتصال مباشرة بعد وصول اليسار الفرنسي إلى سدة الحكم بقيادة الاشتراكي فرانسوا هولاند، عمل اليمين الفرنسي بغالبية تلويناته السياسية على تعبئة الشارع الفرنسي ضد التوطين المشترك لمراكز الاتصال بين المغرب وفرنسا. وبمجرد توصّل المغرب وفرنسا إلى اتفاق حول نموذج جديد في التعامل مع قطاع ال"أوفشورينغ" والذي أطلق عليه وزير تقويم الإنتاج الفرنسي صفة "رابح رابح"، كشفت الجبهة الوطنية الفرنسية عن موقف معاد للمغرب، ورفضت على لسان نائب رئيسها، القرض المقدم للمغرب لتعزيز مواقع مراكز الاتصال، بداعي إضاعة فرص العمل على الفرنسيين، بخاصة وأن فرنسا تعيش أزمة اقتصادية صعبة. ولم يكتفِ الحزب الفرنسي اليميني بموقفه المعادي للمغرب، بل صاغ عريضة وقدّمها إلى الحكومة الفرنسية من أجل وقف تقديم قرض للمغرب بقيمة 100 مليون يورو، مندداً فيها بالإتفاق الذي وقعه وزير تقويم الإنتاج الفرنسي مع المغرب، خلال الاجتماع رفيع المستوى الأخير في الرباط. ويعمل في القطاع حوالي 60 ألف شخصاً في المغرب، بحسب آخر إحصائية، ويتوقع المهنيون أن يصل الرقم إلى 600 ألف منصب شغل خلال السنوات العشر المقبلة. ويستقطب المغرب 50 في المئة من الاستثمارات الفرنسية في مجال مراكز الخدمات المصدرة للخارج. وفتح المغرب أبوابه في وجه قطاع ترحيل الخدمات في تموز (يوليو) 2006، في إطار مبادرة التنمية "خطة إقلاع". ومنذ 2007 تمت تهيئة منطقتين متخصصتين في كل من الدار البيضاءوالرباط لاستقبال ال"أوفشورينغ"، حيث سُلّمت المكاتب الأولى في "كازا نيرشور" في أيلول (سبتمبر) 2007، والمكاتب الأولى في منطقة "الرباط تكنوبوليس" في تموز (يوليو) 2008. الإسلاميون وعودة مراكز الاتصال إلى الواجهة وفي هذا السياق، عبّر عبدالقادر عمارة، وزير الصناعة والتجارة والتكنولوجيات الحديثة في حكومة عبدالإله بنكيران الأولى، عن أمله في أن "تظل فرنسا على مستوى التطلعات"، بعدما كشفت باريس عزمها على تشجيع إعادة توطين أنشطة مراكز الاتصال الفرنسية الموجودة في الخارج داخل البلاد. وحاول المسؤول الحكومي، عبر صحيفة اقتصادية معروفة في فرنسا، إيصال رسالة واضحة إلى حكومة فرانسوا هولاند، مفادها أن المسؤولين السياسيين والاقتصاديين في المغرب سيتعاملون بحزم مع فرنسا إذا تم الاستمرار في التوجه الداعي إلى إعادة توطين خدمات مراكز الاتصال. وعلى المنوال نفسه، سار مولاي حفيظ العلمي، وزير الصناعة والتجارة والاستثمار والاقتصاد الرقمي في النسخة الثانية لحكومة عبدالإله بنكيران، فاتجه صوب السوقين الآسيوية والأميركية، في رسالة واضحة للفرنسيين بأن المغرب انفتح على أسواق جديدة في قطاع ال"أوفشورينغ". ويرى مراقبون، أن الخاسر الأكبر في عملية التوطين هي المقاولات الفرنسية التي لم تقل كلمتها في الصراع الدائر حالياً، والذي اتخذ منحىً سياسياً أكثر منه اقتصادياً، بخاصة مع استغلال اليمين الفرنسي الموضوع في حملته الانتخابية لرئاسيات فرنسا سنة 2012، واتخاذه ورقة لتجييش الشارع الفرنسي ضد الحكومة الاشتراكية برئاسة فرانسوا هولاند.