بعد أن تسيّد مطلبُ «فصل الدين عن السياسة» ردحاً طويلاً من الزمن، وأضحى نشدانه من جملة المطالبات العربية، انبثق مطلب آخر أشد إلحاحاً فرزته «ثورات الربيع العربي» وهو «فصل الثقافة عن السياسة». فإذا كان المطلب الأول فرزته حالات التداخل الشديد بين الإلهي والبشري، وإدارة شؤون الدنيا بتعاليم الشريعة وقوانين السماء، فإن المطلب الثاني تستدعيه متوالية الانهيارات في «الجسد الثقافي» العربي الذي كنا متوهمين إذ اعتقدنا أنه منيع ومحصّن ومقاوم، وأنه «الخندق» الأخير الذي يدافع عن الوجدان، وينافح عن الضمير، والقيم الروحية. لقد أمسى من الضروري مطالبة جمهرة المثقفين العرب، المشتغلين بالأدب والفن والإعلام، أن يرفعوا أقلامهم وألسنتهم عن الخوض في غمار السياسة، لأن تجربتهم الكارثية، لا سيما في مصر وسورية، كشفت عن تصدّع معرفي شديد، وفقر أخلاقي مدقع. ولئن كشفت الحالة الأولى التي تورط فيها رجال الدين والمعمّمون في مستنقعات السياسة، عن ظهور طبقة منهم سُمّيت «فقهاء السلاطين»، فإن الأمر ذاته يتبلور الآن، فلدينا «مثقفو السلاطين» الذين يسوّغون لحاكم أن يقصف مدنيين بصواريخ سكود، لأنه إنما يفعل ذلك من أجل «اجتثاث القوى الإرهابية الظلامية». ولنا، على هذا الصعيد التبريري والذرائعي، في الكثيرين من أصحاب الأسماء الكبرى أسوة «غير» حسنة! فالذي لم يؤيد الثورة السورية لأنها خرجت من المساجد، وبالتالي لا تَعِد إلا بإسلاميين متشددين، هو ذاته الذي هلّل وكبّر للثورة الإيرانية التي لا نعتقد أنها خرجت من الملاهي الليلية! ومن يتتبّع الحالة المصرية، يجد أن مجتمع المثقفين و «النخب» منقسم على نحو عمودي مفخّخ. وللمرة الأول ربما في تاريخ مصر يصبح صوت «النخبة العاقلة» خافتاً ومخنوقاً، فيما يعلو، بزمجرة متحدية ومزعجة، صوتُ المؤيدين لحكم العسكر، المباركين للانقلاب على الحكم المدني المنتخب شعبياً وشرعياً. ومن بين هؤلاء المباركين شخصيات «محترمة» دفعت، في أزمنة سابقة، أثماناً باهظة، وسُجنت وعُذبت وقُهرت وصُودرت حرياتها، ونراها الآن تطبّل لوزير الدفاع الفريق عبدالفتاح السيسي، وتحضه على الترشّح للرئاسة باعتباره «قائد الحرب الوطنية، وعنوان الديموقراطية الشعبية»! لقد دفعت كراهية الإسلاميين بأعداد كبيرة من المثقفين والنخب إلى مغادرة معاقل المنطق، وأضحت كتاباتهم ومواقفهم السابقة المناوئة للطغيان والاستبداد والفساد، جزءاً من ذاكرة المتحف. هؤلاء خانوا، لمصلحة اللحظة السياسية المتحولة، ميراثهم الثقافي والفكري، وتضحياتهم، وصاروا ناطقين باسم العتمة، كأنهم «طيور الظلام»، وكأن حلمهم بالمجتمع المدني التعددي المتعافي من سطوة العسكر، وغلاة الدولة العميقة، صار ينأى ويتبدّد، في سبيل نفي الآخر المخالف، وإقصائه، ورميه في «النيل»! وكيلا يتورط هؤلاء أكثر في مواقفهم وتصريحاتهم وتحريضاتهم، وكيلا يستمروا في عمى الألوان، فيروا العسكري المدجّج بنياشينه هو المخلّص الأوحد، والشافي المتفرّد لآلام الأمة، يتعين أن نطالبهم بأن ينفصلوا بقضّهم وقضيضهم عن الخوض في السياسة، لأنهم فشلوا في فهم آلياتها، وإتقان ألاعيبها! الداعون إلى فصل «الدين عن السياسة» أدركوا أن الدولة الدينية تتعارض مع المجتمع الديموقراطي التعددي، ولم يعد رجال الدين قادرين على الإحاطة بالمشكلات المعقدة للمجتمعات، ولهذا انبثقت أصوات تدعو إلى حياد الدولة (بما هي مؤسسة سياسية) إزاء الأديان عموماً. ولعل ذلك ينسحب على الثقافة والسياسة، إذ ثبت أن للثقافة آليات إنتاج مختلفة عن آليات إنتاج السياسة، فالأخيرة تتعامل مع الوقائع بطريقة فظة وصلبة لا مكان فيها، غالباً، للمشاعر والأحاسيس والأخلاقيات، بينما الثقافة إن فقدت هذه العناصر، فإنها تصبح أي شيء إلا أن تكون ثقافة! ربما تكون الدعوة إلى فصل الثقافة عن السياسة ضرباً من الحلم، أو نشداناً لحالة طوباوية، لكنها ضمانة أساسية لبقاء المثقفين في «حصون»هم، واستعادتهم دورهم المحوري والإستراتيجي في الدفاع عن الحرية والعدالة والتعددية، ومقاومة الإكراه، ويجب أن يكون الصدق رائد هؤلاء، كما يقول إدوارد سعيد، وهذا ما يدفعهم إلى فضح الفساد، والدفاع عن المستضعفين، وتحدي أية سلطة غاشمة. * كاتب وأكاديمي أردني