لماذا لم يتشكل بعد قيام الدولة الأردنية (1921) وعي أردني ملهم بالذات، يطور ويحرك تجمعات سياسية واجتماعية، وينظم الحياة العامة، وتنشأ حوله ثقافة وفنون وموسيقى وشعر...؟ يجب أن يكون السؤال لماذا لم يتشكل على نحو كافٍ وفاعل، وذلك حتى لا نظلم الرواد الأوائل من القادة الاجتماعيين والسياسيين والشعراء والملهمين والمثقفين، ولكنها محاولات لم تخدمها اللحظة القائمة. وفي المحصلة صار لدينا أردن بلا أردنيين! واليوم بعد تسعين عاماً من قيام الدولة يمكن ملاحظة التيه والخراب الناشئ عن غياب/ تغييب الهوية والرواية المنشئة والفكرة الجامعة للوطن والمواطنين، والذي يشمل المجتمعات والثقافة والفنون والعمارة وأسلوب الحياة، وضعف التعليم والخدمات العامة والاجتماعية، وغياب التنظيم الاجتماعي، والخلل الكبير في العلاقة بين الدولة والمجتمع والأسواق. وأسوأ من ذلك الوعي المضاد السائد، والاستعادة المفرطة للروابط القرابية والدينية في مدن واقتصادات متطورة ومعقدة، والتفكير البدائي والإصلاح والتنمية، والتقييم المأسوي للأولويات والاحتياجات الأساسية والعامة، والعمل ضد الذات كما تصف الآية القرآنية «يخربون بيوتهم بأيديهم». ويجعل ذلك العمل الوطني الإصلاحي الأردني يخوض معركة فريدة من نوعها لأجل الدعوة إلى البديهيات وتكريسها، وقد تبدو مفاجئة لغير الأردنيين وربما غير مصدقة، ذلك أن الهوية الجامعة والملهمة لا تنشأ تلقائياً، أو هي على الأقل في الأردن لم تنشأ بشكل عفوي، والأصح أنها تعرضت لحرب شاملة واعية ومقصودة من التغييب والتضليل، ووافق ذلك تحالفاً ضمنياً ورغائبياً لدى فئات واسعة من «المواطنين» يفترض أنهم شركاء ومسؤولون في بناء الثقافة والهويات والمجتمعات وأساليب الحياة والتنظيم الاجتماعي. تحتاج في الأردن إلى سلسلة طويلة وربما يائسة من الجهود المبذولة للتمييز بين المعارضة الوطنية وبين الحكومة، ليس لأنهما متشابهتان، ولكن لأن الذهنية الكاسحة أنه لا معارضة إلا لأجل مقاومة معاهدة السلام والتطبيع، وأما المعارضة لأجل العدالة والكرامة وإصلاح التعليم والصحة والبلديات فهي تراوح بين الغباء أو العمالة للنظام السياسي. ولذلك فإنك تبدو (أنت الناشط والمثقف الإصلاحي) في الوعي السياسي والاجتماعي الغالب والمهيمن جزءاً من السلطة التي تخوض معها أيضاً مواجهة يائسة وغير متكافئة! ولا يستطيع التيار الغالب اليوم في العمل العام والمعارضة والوعي السياسي أن يميز بينك وبين عبدالله النسور وفايز الطراونة! نحن والقيادات السياسية التي نعارضها في سلة واحدة. ثمة تحول مهم وملحوظ في الوعي السياسي والاجتماعي المتشكل بعد الربيع العربي، والذي يعيد النظر في سلسلة المعارضة المتراكمة ويكتشف أنها لم تكن أكثر من شعوذة وهروب وانفصال عن الواقع، بل ثمة اعتراف يمكن سماعه وملاحظته لدى المنشغلين اليوم في عمل سياسي وجماهيري لأجل إنقاذ المسجد الأقصى والاحتجاج على السفارة الإسرائيلية بأن ما يفعلونه هو الخيار المتاح، ولكنهم أيضاً يواصلون لومك (أنت المعارض الوطني) على هذه الحالة ويحملونك مسؤوليتها، ولسان الحال «إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون». وفي الجدل الدائر حول الإصلاح تلاحظ العقل الباطن الذي لا يدرك ولا يعي وجود الوطن والمجتمع، فالإسلاميون (الذين يعتبرون المساس بالنقابات يشبه سب الرسول) والنقاباتيون في ردهم عليك مثلاً عندما تنتقد غياب النقابات عن الإصلاح، يحسبون ما تقوم به النقابات من خدمة لمنتسبيها عملاً اجتماعياً ووطنياً، فلا يميزون بين مصالح النقابة ومنتسبيها والمصالح الاجتماعية والوطنية، ولا يقدرون/ يريدون ملاحظة فرص وواجبات النقابات في تطوير وحماية العمل وقوانينه والضمان الاجتماعي على سبيل المثال او المساهمة في العمل الثقافي او التعليم والرعاية الصحية... ولا يميزون بين دورة في صيانة البويلرات لأعضاء النقابة وبناء مكتبة عامة في حي معصوم، الحي الذي ولد ونشأ فيه مئات الإسلاميين والناشطين والنقابيين و... أبو مصعب الزرقاوي أيضاً! * كاتب أردني