القرار السعودي لرفض عضوية مجلس الأمن أثار الكثير من الصخب، بطبيعة الحال لا يمكن لأحد أن يفهم ما صار بدقة ما لم يملك معلومات محددة مصدرها متخذ القرار مباشرة، لدينا التصريح الرسمي بعد القرار، لكنه لا يعكس كل الأسباب والحسابات المحيطة بالقرار، بالتالي لا يمكن لي هنا إلا التفكير في الأبعاد المكشوفة في القرار من دون تلك المختبئة في كواليس سياسة الأمن القومي السعودي. الحدث له أكثر من زاوية، المملكة رفضت عضوية مجلس الأمن، لكنها رفضته بعد أن سعت إليه لزمن طويل، ثم إنها رفضته على لسان خارجيتها وليس على لسان البعثة الرسمية السعودية في الأممالمتحدة، بل رفضته بعد التفاعل الإيجابي للبعثة السعودية لمّا أُعلن ترشيحها، كل هذه الزوايا تعقّد أية محاولة لتحليل ما صار وتخلق الكثير من الأسئلة، أسئلة يصعب الإجابة عنها، لأنها إجابات غير موجودة إلا لدى متخذ القرار مباشرة. لا شك في أنه قد تتراجع المملكة عن رفضها وتقبل العضوية، فهناك محاولات ديبلوماسية معلنة وغير معلنة أيضاً، تسعى إلى إقناع المملكة بضرورة الإسهام في عمل مجلس الأمن. أكثر المعلقين المؤيدين للقرار ركزوا على الأسباب المعلنة في التصريح السعودي الرسمي، ولكن المشكلة أن أولئك المعلقين بالغوا في ذم الأممالمتحدة، وفي التأكيد على صوابية القرار باعتبار تاريخ الأممالمتحدة السلبي إزاء القضايا التي تهم المملكة استراتيجياً، لكن أشعر أن المبالغة في ربط القرار بماضي الأممالمتحدة يسطّح القرار بعض الشيء، فالأممالمتحدة هي هكذا منذ فترة طويلة، ومجلس الأمن كان يفشل كثيراً في معالجة القضايا التي تهم الأمن القومي السعودي، بالتالي فإن القول أن رفض المقعد متصل بذلك التاريخ، يعني أن تقدم السعودية للحصول على ذلك المقعد لم يكن له معنى في الأساس، بل يعني أن السعودية متأخرة في اتخاذ مواقفها، هذا إضافة إلى أن مجلس الأمن حقق أكثر من مصلحة سعودية إزاء لبنان واليمن وإيران وغير ذلك من القضايا الحرجة، كونه فشل في فلسطين وسورية لا يعني أنه فشل في كل ما يهم السعودية، لذلك أرى أن هناك سبباً آخر لا يرتبط إطلاقاً بالأداء التاريخي لمجلس الأمن أو للأمم المتحدة، وأرى أن محاولات تبجيل القرار هي في النهاية ذم له من حيث لا تدري. لنترك المكاسب المحتملة من القرار التي يركز عليها مؤيدو القرار، ولننظر إلى الخسائر المحتملة، وهي التي يركز عليها بعض النقاد أو بعض خصوم السعودية.هناك من يقول إن هذا يفوّت على المملكة اللعب من داخل أروقة الأممالمتحدة، فلو أرادت المملكة إصلاح مجلس الأمن فإنها أقدر على ذلك وهي عضو فيه، لكنه افتراض غير صحيح، وفيه شيء من التبسيط أيضاً، فأولاً، المملكة ليست دولة هامشية بحاجة إلى أن تكون في مجلس الأمن، لكي تعمل على التأثير مع مجلس الأمن. وثانياً، فإن إصلاح المجلس لا يأتي من خلال العضوية فيه، وإنما من خلال ضغط الدول الأعضاء في الأممالمتحدة على ضرورة إصلاح نظام مجلس الأمن. وثالثاً، معروف أن دور مجلس الأمن لا يمكن أن يتجاوز توازنات القوة الدولية، ولا يوجد سياسي يتوقع أنه يمكن إصلاح المجلس من خلال الأممالمتحدة، وإنما من خلال خلق معادلة دولية جديدة، وهذا غير ممكن الآن البتة. وبالتالي، فلا يمكن ربط القرار السعودي بأمر هو غير ممكن لها، ولا بد من البحث عن السعي السعودي إلى الممكن وليس المستحيل. هناك من رأى أن هذا سيؤدي إلى عزل سياسي بين السعودية والعالم، وغريب أن يقول أحد هذا، لأن السعودية ليست دولة هامشية في العالم، وليست دولة بحاجة إلى الأممالمتحدة لكي تعزز علاقاتها الديبلوماسية العالمية، ربما يصح هذا الكلام لو كنا نتحدث عن دولة أخرى، لكنها لو كانت دولة أخرى لما سمع أحد أصلاً بأي من أخبارها. البعض يتحدث عن احتمال تدهور العلاقات الأميركية السعودية جرّاء هذا القرار، بل يرى أن الموقف السعودي ما هو إلا رد فعل على مواقف الولاياتالمتحدة إزاء قضايا المنطقة، لكن المقطوع به هو أن شرق آسيا والخليج العربي سيظلان من ضرورات الأمن القومي الأميركي مهما توتّرت بينهما العلاقة الديبلوماسية أو اختلفا في بعض القضايا الأساسية، وقطعاً فإن التذبذبات في العلاقة بين البلدين لن تكون إلا في قضايا لا تمس جوهر التحالف بينهما، وتاريخ العلاقات الفرنسية الأميركية كانت متوترة للغاية لدرجة أن فرنسا انسحبت من «الناتو» في أيام شارلز ديغول، لكن هذا لم يغيّر من جوهر العلاقة الأمنية بين البلدين، والأمر نفسه بخصوص العلاقة بين السعودية والولاياتالمتحدة، مهما اختلفت مواقفهما إزاء القضية المأسوية في سورية والتهديد الإيراني وغير ذلك من القضايا، إلا أنهما سيبقيان بحاجة إلى بعضهما البعض. أي مهما كان القرار غامضاً إلا أنه قطعاً ليس مضراً للمملكة، بل قد يكون مفيداً لها. أيضاً لا يمكن القطع بأن إخراج القرار بالطريقة التي صارت سيضر المملكة، البعض يقول إن طريقة الإخراج تعطي الانطباع بأن المملكة ترتجل في قراراتها الحيوية، لكن حتى هذا يمكن أن ننظر إليه بطريقة أخرى، ففي حين يقول أحد بأنه كان مفاجئاً بطريقة غريبة، يمكن القول في المقابل بأنه إخراج ملائم في المسرح السياسي، والفعل السياسي عرض مسرحي بقدر ما هو حسابات ومعادلات، بل البُعد المسرحي قد يفوق أهمية، والعروض المسرحية السياسية عدة، بدءاً من أمور بسيطة مثل رفع العلم والاحتفالات الوطنية إلى العروض العسكرية إلى التصريحات والمواقف الدولية. الأزمة الروسية الأميركية أيّام جون كينيدي تمت معالجتها بعرض مسرحي على رغم أنها وضعت العالم على محك حرب نووية شاملة، بل لولا بُعدها المسرحي لربما انتهى الأمر بأضرار كبيرة، فالإخراج المسرحي صار الوسيلة للتفاهم بين أطراف غير قادرة على التفاهم المباشر. هنا أيضاً نحن أمام عرض مسرحي سياسي، السعودية تريد أن ترسل رسالة قوية للغاية، لا أحد يعرف لمن موجهة هذه الرسالة، هل هي لروسيا أم الصين أم الولاياتالمتحدة؟ ربما هي رسالة للعالم. المضمون المعلن للرسالة هو أنّ المملكة لن تقبل أن تكون طرفاً في كيان لا فائدة منه، ربما هناك رسالة مضمرة لا نعرف عنها بعد، الإخراج المسرحي لهذه الرسالة السياسية حقق غرض إيصالها على أقوى وجه. السؤال الأهم: ماذا بعد؟ سواء تراجعت السعودية لتقبل العضوية أم لا، فإن المملكة الآن أمام تحدٍ كبير، اتخذت موقفاً قوياً إزاء مؤسسة دولية، فكيف ستستثمر الموقف؟ إن قبلت العضوية فلن يمكنها أن تتصرف حينها كأية دولة من دول المجلس، وإن استمرت في رفضها فلن يمكنها أن تتصرف كأية دولة من الدول الأعضاء في الأممالمتحدة، وضعت المملكة نفسها في موضع تاريخي، وعليها ألا تفوّت فرصة استثمار هذا الموقف. الآن أكثر من أي وقت مضى، تحتاج السعودية إلى ديبلوماسية فاعلة وقوية ونشطة وحاضرة في المحافل الدولية كافة، الآن أكثر مما مضى، فإن الناس مستعدة لسماع ما لدى السعودية، الآن أكثر من أي وقت مضى، هي بحاجة إلى استراتيجية إعلامية قوية وحاضرة، الآن أكثر من أي وقت مضى، هي بحاجة إلى تفعيل القنوات الديبلوماسية الشعبية. ما حصل إلى الآن هو موقف سياسي مهم، لكن ما سيحصل سيحدد، إذاً سيصبح هذا موقفاً تاريخياً للملكة العربية السعودية. * كاتب سعودي. amiymh@gmail،com @amiq1